قصة قصيرة بقلم : سوسن شمعون
بقي واقفاً لفترة طويلة يرتشف كوب الشاي على مهل و عيناه ترنو إلى المبنى المقابل الذي تحول إلى ركام قبل أسبوع و بدء الرجل يتذكر المأساة التي أودت بحياة جيرانه و أصدقاء أبناءه الأطفال و مشاهد الجثث و الأنقاض التي ترفع عن المكان , جلس و هو يتحسر على أيام أمانٍ خلت , كان هذا الرجل يعمل سائقاً لشاحنة نقل و بسبب أوضاع بلاده خسر عمله و أصبح يُكثر الشرود و الانعزال بعد أن كان هو و أسرته في أحسن حال , كان أطفاله يُحدثون ضجةً داخل البيت فالتفت إليهم ليرى هذا التناقض الغريب فالموت يتجسد أمامه في ذلك المبنى المنهار بينما أطفاله الصغار يلهون ورائه في خضم الحياة , تحول المشهد في مخيلته إلى قصة إنسان مختصرة من الولادة حتى الفناء , تبدأ بلهو و لعب و عبث و تسير بعدها برتابة عملٍ منهِك ثم تنتهي بأسباب مختلفة و منها ويلات الحرب , هذا الرجل التعيس لم يكن له مكان يذهب إليه مع أسرته فبقي مسلِّماً أمره لله و داعياً بالفرج عن البلد , وفي لحظات تأمله المريرة دخلت زوجته وهي تصيح بالأولاد أن يكفوا عن الصخب فبادرها بسؤالها عن المعونة التي ذهبت لتستلمها فقالت له أنها لم تستطع أخذها لأن دورها لم يحن بعد , و طلبت منه كما في مراتٍ سابقة أن يبحث عن مكان آمن يلجأ إليه أو يغادر هذه البلاد و يعيش ما تبقى من حياته خارجها , هو بين خيارات عدة كالمكوث و انتظار الموت المفاجئ أو الذهاب لذلك الموت برجليه , فإما أن يلتهمه الموت أو يصل مع عائلته لشاطئ الأمان المرتقب . ينظر إلى أطفاله و يحاكي نفسه فيما كانت زوجته تسرد له تفاصيل معاناتها لنيل المعونة, كان يتأمل أطفاله و يقول هؤلاء يكبرون و يكبر همهم معهم وماذا بعد ؟؟ تمضي الأيام عليه و هو يعيش بين رعبٍ و خوف من المجهول القادم و في النهاية يقرر السفر مع عائلته لدولةٍ أُخرى لعلهم يحظون ببعض السلام , يقوم ببيع كل ما يملك و يستدين و يبحث عمن يوصله للمكان المبتغى , كان القرار صعباً لكنه لم يعد يحتمل حياة القلق و هو يرى من يعرفهم يغادرون أو يموتون دون سابق إنذار , فقرر أن يخوض مع عائلته غمار التجربة المقيتة تلك و ما أن حطوا رحالهم مع عائلات أخرى على شاطئ البحر طلب منهم المهرِّب أن يركبوا جميعاً في زورق مطاطي لا يكاد يتسع لنصفهم , هنا الأب لم يكن بيده خيار آخر , إما التراجع أو المضي قُدماً لذلك صعد مع أسرته و قلبه يرتجف من الفزع و شق القارب عُباب البحر و أخذ الأب ينظر بعينين دامعتين إلى الشاطئ الذي يبتعد رويداً رويداً و كأن الماضي يبتعد و كأن العمر المنصرم ينسلخ عنه كان يودع ذكرياته أو يودع روحه التي تركها في أرض الوطن , و بعد حين اشتدت قوة التيار البحري فطلب رئيس المجموعة أن يلقي الركاب بأمتعتهم في الماء و شاهد الأب كيف لجأ أحد الأشخاص برمي دواء ابنه المريض بالسكري و آخر رمى بعض ثيابه التي كان يرتديها مع الحقائب و أخذ الناس يتمسكون بأبنائهم كما يتمسك المحتضر بالحياة , و كما يتمسك الحالم بحلمه لكي يستمر هذا الحلم و إن مات هو , و فجأةً تمر سفينة أجنبية قربهم و بدأ من على متنها يلتقطون الصور و بينما كان القارب ينقلب بمن فيه و تعلو صيحات الاستغاثة و الناس تغرق و الاستغاثة مستمرة و الأب يحاول جاهداً أن ينقذ من يستطيع من أفراد عائلته لكن بلا جدوى , سارت السفينة دون أن تنتشل أحداً و ابتعدت و بدأ الأب يفقد الشعور بجسده ببطء , كان مذهولاً لغرق أبنائه و زوجته أمامه و مصدوماً لرد فعل أصحاب السفينة الذين التقطوا الصور و مضوا و بعد برهة لم يستطع الأب الصمود طويلاً نظر إلى السماء و عيناه لم تعدا تبصران شيئاً قال بصوت متهدج , بلدي يا الله بلدي يا الله, و تنتهي قصته و مأساته و بحثه عن الأمان و ينتهي ضجيج أوﻻده و عبثهم الطفولي و ينتهي تعب زوجته و سعيها في سبيل المعونة و لكن حكاية بلده مازالت مستمرة . و الصور مازالت تلتقط و الغرق في بحر القهر والحرب و الغربة مازال مستمراً. لكن إلى متى يا الله , إلى متى ؟ وللحكاية بقية…