بقلم: محمد منسي قنديل
رحل العالم العنيد، الرجل الذي عاند المرض والموت والإعاقة، وامتلك الكون الواسع وهو قعيد كرسيه المتحرك، في بداية الستينات عندما اصيب بمرض ضمور العضلات الجانبي، تنبأ الأطباء أنه لن يصمد أكثر من ثلاث سنوات، ولكنه لم يستسلم لسطوة الموت إلا بعد حوالي خمسين عاما، ستيفن هوكينج كان يسعده أن يقول أنه ولد بعد ثلاثمائة عام في اليوم نفسه الذي مات فيه جاليليو، فقد ولد في 8 يناير عام 1942، وعلينا أن نتخيل كيف كان سيتصرف إذا عرف أنه سيموت في 14 مارس عام 2018 اليوم نفسه الذي ولد فيه البرت اينشتين منذ مائة وثلاثين عاما، ربما لايعرف الكثيرون ماذا قدم ستيفن هوكينج للعلم، ولكنهم يعرفون قصة صراعه العنيد مع المرض، وقد ركز الفيلم الذي أنتج عن حياته بعنوان «نظرية كل شيء» على ذلك المزيج من العناد والاصرار الذي كان هذا الرجل يتمتع به، كما أن كتابه الشهير «مختصر تاريخ الزمن» الذي صدر1988 حقق أكبر المبيعات وقرب للناس فكرة الكون الذي نعيش فيه وعن نظريات الفيزياء المعاصرة لتفسيره.
يقول هوكينج: « إذا كانت توقعاتك تقارب الصفر، فستكون ممتنا لأي شيء تحصل عليه»، كان المرض قد قطع عليه طريق الأمل في أن يعيش حياته كإنسان طبيعي، لم يدع لنفسه مجالا للتذمر أو الغضب، كان صغيرا عندما بدأ يتعثر ويسقط من تلقاء نفسه، وعندما عرضه والداه على الاطباء اكتشفوا بدايات هذا المرض، ولكن جسده كان مازال متماسكا، لم يبدأ في الانهيار إلا في الواحد والعشرين من عمره، قبل أن يقدم رسالة الدكتوراه إلى جامعة كمبريدج، بدأ الضمور يزحف على عضلاته، كل تطور يترك خلفه شللا دائما، يفقد القدرة على الحركة، ثم القدرة على الكلام، لم يعد يتحرك في جسده إلا عينين يقظتين وعقلا لا يكف عن التفكير، ولكن مثلما دخل المرض إلى حياته كقدر حتمي، جاء إليه الحب ايضا كلمسة من الدفء والأمل، تعرف على زميلته في الجامعة «جين وايلد» التي آمنت به، وظلت خلفه منذ اللحظة الأولى، كان يمر بمرحلة من اليأس العميق، بعد أن اكد له الاطباء انه ليس أمامه إلا سنوات ثلاث قبل أن تنهار كل وظائف جسده، ولم يجد فائدة في مواصلة اعداد الرسالة، « كنت سأترك كل شيء، واقضي أيامي الأخيرة وأنا استمع لموسيقى فاجنر» ولكن جين أصرت على أن يتجاوز لحظة اليأس ويقدم اطروحته، رأت فيها لمحة من عبقريته، خاصة وأنها تدور حول النظرية النسبية عند اينشتين، ولم تتجاوزها فقط ولكن حطمتها أيضا، وبعد ذلك لم تتزوجه جين فقط ولكنها انجبت منه ثلاثة ابناء ايضا.
كان ستيفن هوكينج يرى الكون بمنظور جديد، واثبت كل ذلك نظريا بالمعادلات الرياضية، ولكن جسده كان يخونه، وعندما اصيب بالشلل وظل يرفض الجلوس على المقعد المتحرك، كان يرى بعقله أن الكون لا يكف عن التمدد والاتساع، بينما الواقع من حوله يضيق ويصبح خانقا، ومرة أخرى تدخلت زوجته واقنعته بقبول المقعد، اقتنع لحظتها ايضا أنه لا يستطيع مواصلة حياته إلا بالاعتماد على أحد، كان لايستطيع أن يشرب كوبا من الماء إلا ويسقط نصفه على نفسه، واصبح من الصعب أن يصل إلى مكان عمله في الجامعة، كان في حاجة إلى منحدر خاص يسير عليه بكرسيه المتحرك، ولم يكن في ميزانية جامعه كمبريدج ما يمكنها من انشاءه، وقامت الزوجة بعمل حملة لجمع التبرعات اللازمة من اجل اقامة طريق خاص يمكن أن يستخدمه كل ذوي الاعاقة الذين يدرسون في كامبريدج.
ولكن صحة هوكينج استمرت في التردي، كان جسده مازال متماسكا حين قبل العمل لفترة مؤقتة في جامعة كاليفورنيا، ولكن زوجته التي كانت متفانية دوما، تهتم به وبالمنزل والأولاد بدأت تحس بالتعب، وبنوع من الحرمان، استطاعت ان تقنعه بأن يدخل شخص ثالث إلى حياتهما، كانت صحبة هوكينج صعبة، بسبب الذكاء الحاد والعجز المتواصل لم يكن هناك مجال للتفاعل الاجتماعي مع غيره من الزملاء، وتم الأمر بصورة طبيعية حين اقام معهما احد طلية الدراسات العليا في الفيزياء، واصبح هذا الشخص يتغير كل فترة، وعندما عادا إلى انجلترا كان هوكينج قد اصبح عاجزا عن الكلام، وبدأ يتنفس بصعوبة ويأكل بصعوبة واصبح ايضا عاجزا عن الاشارة بأصابعه، فقد اصيب بالتهاب رئوي حاد، وتوقف عن التنفس، وكان الحل احداث ثقبا في قصبته الهوائية، وكان هذا سببا في فقدان صوته للابد، وتدخلت التكنولوجيا الحديثة لتخفف عنه قليلا، قام والتر وولتوس وهو احد المبرمجين الافذاذ، كان قد قام بتطوير برنامج للتخاطب مع زوجة ابيه التي كانت تعاني من نفس العجز، ووافق هوكينج على أن يطبق عليه البرنامج نفسه مع بعض التطوير، اصبحت هناك كاميرا مسلطة عليه طوال الوقت، تلتقط تحركات عضلات وجهه وتحوله إلى نبضات الكترونية تتجول بين الحروف المختلفة قبل أن تحولها إلى كلمات، اصبح هناك صوتا الكترونيا يعبر عن هذا الجسد المشلول، لم يعد شخصا واقعيا بشكل أو بآخر، اصبح كائنا أسيرا عشرات الأسلاك والتوصيلات والنبضات الخفية، لذا لم يكن غريبا أن يأخذ الشخص الثالث في حياتهما منحن آخر، كانت الزوجة جين قد كبتت طموحاتها ومشاعرها طويلا، كانت تهوى الموسيقى والغناء ولم تجد لها مجالا وسط حياة العالم الجافة، ولكنها تعرفت على عازف الارغن في الكنيسة، وجدت نفسها تنجذب إليه، ولم تشأ ان تفعل شيئا خارج المنزل او بعيدا عن اعين زوجها، فقررت اضافته إلى المنزل، ولم يكن أمام هوكينج إلا أن يوافق على تواجده معهما: «بشرط آلا تتخلين عني، أو تكفين عن حبي».
من الصعب شرح ماذا اضاف ستيفن هوكينج للعلم، لأن فهمي لفيزياء الكون قاصر عن ذلك، ولأن مصطلحات هذا العلم في اللغة العربية لا يسهلان هذا الأمر، انجاز هوكينج ليس محسوسا على أرض الواقع، لأنه يدور في علم الرياضيات المجرد، ويشرح امورا في الكون الواسع، مثل نظرية الكوانتم أو الكم، او الطاقة المنبعثة من الثقوب السوداء معارضا بذلك رأي اينشتين، بل أنه يقدم تفسيرا جديدا للانفجار العظيم الذي ولد عنه الكون، كما القى الضوء العلاقة بين الفضاء والزمن وكيف أن الكون قابل للانحناء أو التمدد في حال توفر المادة والطاقة، لم يفز ستيفن هوكينج بجائزة نوبل، ولكنه فاز بالعديد من الجوائز العالمية، وكانت ابرز مواقفه التي تخصنا كعرب هو امتناعه عن المشاركة في أي مؤتمر تقيمه اسرائيل ورفضه الحازم لزيارتها.