بقلم: د. خالد التوزاني
صدر مؤخراً كتاب “سندس الزهراء في تراجم الصحراء”، للأكاديمية المغربية الدكتورة فدوى اجمولة، ضمن مركز روافد للدراسات والأبحاث في حضارة المغرب وتراث المتوسط، وهي مؤسسة أكاديمية بحثية متخصصة في الفكر المغربي – الأندلسي والدراسات التراثية، يرأسها الأكاديمي المغربي الدكتور عزيز أبو شرع، الأستاذ الجامعي بجامعة ابن طفيل. وقد صدر هذا الكتاب بتقديم الأكاديمي المغربي الدكتور مولاي إدريس شداد، الأستاذ الجامعي بمعهد الدراسات الإفريقية، بجامعة محمد الخامس، بالرباط عاصمة المملكة المغربية.
ينتمي كتاب “سندس الزهراء في تراجم الصحراء”، إلى ما يُعرَفُ بكتب التراجم والمناقب، وهي عبارة عن سير ذاتية تتحدث عن الأعلام سواء كانوا رجالاً أو نساء، فتركّز على أخبارهم ومؤلفاتهم ومنجزاتهم، وعادةً ما توثّق سير العلماء والأدباء والشعراء والصلحاء والسلاطين.. نظراً لتأثيرهم البارز في مجتمعاتهم، بل وتأثيرهم في مَنْ جاء بعدهم، وتشكل هذه المصنفات أحد أهم المصادر التاريخية التي تحفظ أمجاد الأمم ومفاخرهم.
يُجمع جل أصحاب كتب التراجم والمناقب، على ضياع أخبار العديد من النساء الصالحات اللواتي عُرفن بالعلم والصلاح والولاية، فهذا صاحب كتاب: “التنبيه على من لم يقع به من فاضلات فاس تنويه” يقول في مطلع كتابه: “ومعلوم من شأن أهل هذه البلاد (يقصد المغربية) عدم الاعتناء بالتعريف والتصدي لذلك بتأليف أو تصنيف، فكم من إمام به اعتناء واحتفال، بل ألقي في زوايا الإغفال والإهمال” . ومن ثم، “لا جرم أن الباحث إذا أراد أن يبحث في المرأة العربية المسلمة، فإنه يجد عقبة كأداء لا يذللها إلا إذا مكث ردحا من الزمن، منقبا في بطون الأسفار المطبوعة والمخطوطة، لعله يظفر بطلبته ويدرك حاجته”، نظرا لقلة المصادر التي تتحدث عن سير النساء وتتبع أخبارهن، ولذلك يعتبر كتاب “سندس الزهراء في تراجم الصحراء”، للأكاديمية المغربية الدكتورة فدوى اجمولة، من الكتب الرائدة في هذا المجال، حيث اشتمل على أزيد من 240 ترجمة، إلى جانب أسماء العديد من القبائل والأحداث والأماكن والعادات..، مما يوثّق لتاريخ الذهنيات.
لقد كان للمرأة العربية والمسلمة حضور قوي في الحياة اليومية، فكانت تتعلم، وتعلم، وترحل في طلب العلم، وكانت تفتي، وتقدم رأيها في القضايا العامة، إذ لم تكن حبيسة المنزل، بل كانت في عمق الحياة الاجتماعية، وفي صلب الأحداث، وشاركت الرجل في بناء الحضارة الإسلامية، وفي أحيان كثيرة تفوّقت في شتى العلوم من شعر، وأدب، وطب، وهندسة ورياضيات، وعلم الفلك..
ويأتي كتاب “سندس الزهراء في تراجم نساء الصحراء” للدكتورة فدوى اجمولة، حسب الأستاذ الدكتور مولاي إدريس شداد، الذي قدّم للكتاب، “لينفض الغبار عن عالمات الصحراء، ويذكرنا بأن هذه المناطق القاحلة والمنفرة، أنجبت عالمات لهن صيت دائع في مجتمع ذكوري تغلب عليه الرواية الشفهية بالدرجة الأولى”. ويضيف: “ولا يخفى على كل باحث ما يمثله هذا العمل العلمي من قيمة مضافة لكل الأعمال التي أنجزت حول المجال الصحراوي. فالدكتورة فدوى اجمولة، تصبو من خلال كتابها هذا لرصد جوانب من سير أعلام الصحراء النسائية اللواتي وأد المجتمع الذكوري أعمالهن في الرمال، فصِرن نسياً منسياً.
يتتبع هذا الكتاب أخبار النساء في الصحراء المغربية من فترة المرابطين مرورا بعصر السعديين وانتهاء بعصر العلويين، وهي فترة طويلة، بحيث ضم الكتاب أزيد من 240 ترجمة، إلى جانب أسماء القبائل والأماكن والأحداث، وخاصة في منطقة الصحراء، حيث يعتبر المجال الصحراوي بما فيه الصحراء المغربية، وبلاد شنقيط وكذا المناطق التي هاجرت إليها بعض القبائل الصحراوية (حوز مراكش وسوس، …)، وقد اعتمدت مؤلفة الكتاب في مضامين التراجم على مصادر تاريخية مختلفة، ككتب التراجم العامة والسير وكتب الأنساب والمناقب والرحلات والرسائل، والإجازات، والأطروحات، والمعلمات، والمؤلفات الحديثة الطبع.
نشأت عالمات الصحراء في مجتمع تهيمن فيه الرواية الشفهية، والعقلية الذكورية التي تختلف من قبيلة إلى أخرى حسب تراتبيتها الاجتماعية، فنجد أن الزوايا (حملة الكتاب) سهروا على تدريس فتياتهن، في حين أن بنو حسان (حملة السلاح) لم تستفد بناتهن من التدريس، إلا بعض شيوخ القبائل الذين استقطبوا فقهاء من الزوايا وأسسوا لهم محاظر (مفرد محظرة) أسرية ليعلموا أولادهم علوم الدين، ومنهم من تصاهر مع شيوخ الزوايا (كالشيخ ماء العينين)، وكانوا كذلك يرسلون إليهم أبناءهم للتفقه والنهل من العلوم الدينية على أيديهم.
عرض تراجم أعلام نساء فاعلات لهن قيمة تاريخية. تتيح إبراز الحياة العلمية والتربوية، والروحية للمرأة في فترات تاريخية هامة، والتراجم جلها مختصرة تقدم المعلومات المتاحة المرصودة في المظان المكتوبة المتوفرة، بصيغ تعبيرية معتادة بسيطة نحرص على نقلها بأمانة، وهي وفيرة في تراجم، وقليلة في أخرى.
وقد جمعت أزيد من اثني وتسعين و مائتي علم، وتنتمي التراجم لخمسة قرون هجرية من القرن الحادي عشر الهجري إلى الخامس عشر الهجري، ومنهن من لا نجد لها تاريخا محددا، وفيهن “فانو اللمتونية “ التي تنتمي للقرن الهجري السادس (توفيت545ه). ويتم بسط المعلومات التي عثرنا عليها رغم محدوديتها، ونعرض في قليل من التراجم نزرا من نصوص كَرامية تتضمن موضوعات منها شفاء المرض، والرؤيا الصالحة، ومساعدة الأطفال و المحتاجين، أو أشعار..
وترتب أوراق الكتاب وفق الأعلام، إذ تتوزع تراجم النساء وتتموضع في ركن من السفر بالخضوع لمقياس ومعيار، حيث يدرج الاسم تحت الحرف الأول من النسب، أو القبيلة المثبت المشهور للعلم، مما يمكن من التمييز بين النساء اللواتي ينتمين لنفس السلالات والقبائل. وسرد التراجم تحت الحرف يخضع للحرف الأول من اسم العلم. وتعرض الأسماء على الطريقة التقليدية باعتماد الترتيب الألفبائي للحروف الأصلية في النسب أو العلم، وإذا كانت السيدة مجهولة الاسم نثبت ما عثرنا عليه من صفة، أو صلة لها بعلم آخر مثل “جدة..”، أو “أم” أو “خالة”…أونلحقها بنسب زوجها، إذا فقد نسبها مثل “..زوج الشيخ ماء العينين”، وهذا قليل…
وقد سعينا إلى تتبع توثيق المعلومات السليمة من المظان التي بحثنا فيها فعلا للتأكد وإثباتها، والتخلي على المشبوهة أو الكاذبة، وتجنبت الإحالات الخاطئة، وهي معضلة كبرى في كثير من التراجم، لذلك أنبه إلى أنه تم الرجوع فعلا و فتح واعتماد كل المظان الموثقة في التراجم، ولائحة المصادر والمراجع.
يقدم هذا الكتاب صورة شاملة واقعية تاريخية عن المرأة الصحراوية الفاعلة والمؤثرة، وكيف أسهمت العوامل الثقافية، والروحية بقوة في تبلور شخصيتها الرائدة، وقد وهب الله لها الدين فوفَيت به، وسخر لها العلم، والشيوخ، والقرآن، فزادت عملا وإيمانا، وكانت مستعدة روحيا ونفسيا للعطاء، وَفَّقت بين الحياة الشخصية والروحية والعلمية، وكانت على مستوى عال تقرأ كثيرا، وارتقت في الصلاح، فتمتعت بالمناقب العالية من عفة، وصبر، وبذل جهد. فشكلت القدوة الحية للخلف اللاحق. ونالت الوَليات منهن الكرامات المشهودة الظاهرة، فانتشرت ودُونت. فالصحراء كانت فضاء الأنوار الروحية، حاضنة آثار النساء المادية واللامادية، وشاهدة على ذوبان وانصهار الذات الأنثوية في الرسالة الدينية، و العلمية النافعة للأجيال القادمة.
هكذا، يتبين ضرورة البحث في أعلام النساء في الصحراء، وبذلك يكون هذا الكتاب وسيطا بين العَلم والقارىء المعاصر، إذ لا يمكن أن إغفال دور هذه الأسماء الرائدة، وخاصة عندما نتطرق إلى قضية الصحراء، فقد كانت للمرأة دور في مقاومة الاستعمار ومقاومة الجهل.
من مقاصد هذا العمل، حسب المؤلفة الدكتور فدوة اجمولة: “تثمين البحث في التراجم، وهي جزء من التراث المادي، وتقويته، وتيسيره، للباحثين والمختصين. فالتراجم تؤكد ثراء الذاكرة الثقافية، وترسخ ثقافة الاعتراف بالموارد البشرية، وفاعليتها، وتعكس الخصوصية المعرفية، والدينية، والاجتماعية، التي جسدتها المرأة في جل مناحي الحياة، وإسهامها في ترسيخ وتعزيز منظومة التعليم بالقيم الذي اعتمدته النساء في التدريس. وعندما نقرب تراجم هذه الدرر من الأجيال القادمة، نؤكد أهمية التربية بالقدوة، والنموذج الحي الفاعل، وننتظر أن ينتقل القارىء من اسم لآخر، فيجد بقعة من بقاع الصحراء، أو مزارا، أو قبرا، أو حدثا، أو أثرا… سيجد تاريخا واقعا نفتخر به، فلن يقبل أهل الصحراء، والمغاربة، بأن لا نخصص سفرا لتراجم اولائك النسوة، ففي تراجمهن محاسن تلفت الناس، وفي رفعتهن رفعة الهوية العربية الإسلامية الإفريقية الصحراوية”.
وأخيراً، تجدر الإشارة إلى أن كتاب “سندس الزهراء في تراجم الصحراء” للدكتورة فدوى اجمولة، حصلت على شهادة الدكتوراه عام2019، عن أطروحة جامعية حول الكرامة الصوفية في الصحراء المغربية، تحت إشراف الدكتور محمد الظريف، وقد صدرت مؤخراً.