بقلم: د. حسين عبد البصير
«طريق الحرير» هو ممر التجارة والحضارة الذى استخدمته بذكاء وعبقرية الصين من أجل زيادة تبادلها التجارى البرى مع بلدان ومدن جنوب آسيا وغرب آسيا وأوروبا وشمال أفريقيا. ويُسمى بـ»طريق الحرير»؛ بسبب نقل كميات كبيرة من الحرير والمنسوجات الحريرية الصينية إلى الغرب عبر هذا الطريق التاريخى الطويل والقديم. وتشكل هذا الطريق فى القرن الثانى قبل ميلاد السيد المسيح عليه. وما بين القرن الثانى قبل الميلاد والقرن الثانى الميلادى كان على طول طريق الحرير أربع دول إمبراطورية كبرى وهى روما (فى أوروبا) وبارثيا (فى غرب آسيا) وكوشان (فى أواسط آسيا) وأسرة هان الصينية (فى جنوب شرق آسيا). وكان يمتد هذا القسم لمسافة 5000 كلم عبر ثلاث دول هى الصين وكازخستان وأوزبكستان. ويضم مسار طريق الحرير ثلاثة وثلاثين موقعًا مختلفًا ما بين مدن رئيسية وقصور ومناطق تجارية وممرات جبلية ومنارات وأجزاء من سور الصين العظيم وحصون وأضرحة ومبانٍ دينية. ووضع قسم من هذا الطريق على لائحة التراث العالمى الخاصة بمنظمة اليونسكو عام 2014. ومن المتوقع ضم المزيد من المواقع فى العديد من الدول لتصبح جزءًا من مسار طريق الحرير المهم.
وكان طريق الحرير يمتد من مدينة تشان جان، عاصمة الصين، خلال عصر أسرتى هان وتانج إلى أوروبا عبر آسيا الوسطى والشرق الأدنى. واُستخدم إبتداءً من القرن الثانى قبل الميلاد إلى القرن السادس عشر للتجارة ونقل البضائع الصينية وأشهرها الحرير إلى باقى مناطق العالم القديم. وبقى هذا الطريق البرى مستخدمًا إلى القرن السادس عشر عندما أُستبدل بالطريق البحرى. ويعود تاريخ طريق الحرير إلى آلاف السنين، وعلى امتداد كل العصور، وكانت دولة وحضارة مصر العظيمة من بين المناطق الأكثر الأهمية على مسار طريق الحرير؛ نظرًا لأهمية موقعها الجغرافى والحضارى المتميز بين حضارات وقارات العالم أجمع.
وطريق الحرير هو مجموعة من الطرق المتصلة التى كانت تسلكها القوافل وتمر عبرها السفن من جنوب شرق آسيا واصلة بين الصين (وتحديدًا تشآن والتى كانت تعرف قديمًا باسم «تشانج آن») مع منطقة أنطاكية فى بلاد الأناضول (تركيا الحالية) فضلاً عن عدد من المواقع التجارية والحضارية الأخرى، وكان تأثيرها يمتد إلى بلاد أخرى فى جنوب شرق آسيا مثل اليابان وكوريا.
وتم إطلاق إصطلاح «طريق الحرير» فى القرن التاسع عشر فى ألمانيا حيث نحت هذا المصطلح الجغرافى الألمانى الشهير فرديناند فون ريتشهوفن فى عام 1877 ميلادية مع أسرة هان الصينية. وساهم طريق الحرير فى ازدهار الكثير من الحضارات مثل الحضارة الصينية والحضارة المصرية والحضارة الهندية والحضارة الرومانية وحضارات شبه الجزيرة العربية. واستمر التأثير إلى العصر الحديث.
ويمتد طريق الحرير بين المراكز التجارية والحضارية فى شمال الصين. ويسير فى طريقين: أحدهما شمالى والآخر جنوبى.
ويمر الفرع الشمالى (أو الصيفى) ابتداء من منطقة بلغار-كيبتشاك ويعبر شرق أوروبا وشبه جزيرة القرم ويصل إلى البحر الأسود وبحر مرمرة وبلاد البلقان، وينتهى بمدينة البندقية (فينيسيا) الإيطالية الشهيرة. بينما يمر الفرع الجنوبى (أو الشتوى) من بلاد تركستان وخراسان مرورًا ببلاد النهرين (العراق) والأناضول وسوريا، خصوصًا عبر مدينة تدمر السورية الحضارية العريقة، وإلى أنطاكية إلى البحر الأبيض المتوسط أو عبر عاصمة الشام مدينة دمشق، أقدم مدينة مأهولة فى العالم كله، وبلاد الشام إلى مصر، أرض الحضارات والتاريخ المتتابع، ومن ثم إلى شمال أفريقيا.
وترجع أهمية هذا الطريق وتكونه وتاريخه وشهرته وأهميته إلى الحضارة الصينية العريقة التى أبدعت صناعة الحرير قبل ميلاد السيد المسيح عليه السلام. وكانت صناعة الحرير الصينية، بما فيها روعة فنون نسجه وزخرفته وتطريزه وغيرها، متميزة للغاية، وبلغت الذروة مع أسرة تانج ومن بعدها أسرة مينج. وكان الجميع فى العالم كله يتنافس على الحصول على الحرير الصينى عالى الجودة بأى مقابل حتى أنهم كانوا يدفعون الأحجار الكريمة للحصول عليه. وبدأ الحرير الصينى يأخذ طريقه للانتشار فى العالم كله، وكانت معه بضائع أخرى تُصدر على نفس الطريق. فخرجت هذه البضائع، وعلى رأسها الحرير بالطبع، من الصين وجنوب شرق آسيا إلى أواسط آسيا وشمال أفريقيا ووسط أوروبا فى مسارات تجارية وحضارية محددة، عُرفت باسم «طريق الحرير» الشهير. وهكذا، فإن كل تلك القوافل والسفن كانت تتجه من الشرق إلى الغرب، رابطة العالم ببعضه البعض، وساهم هذا الطريق فى إزدهار العديد من البلدان والمدن التى كانت تقع على مساره. وكان هذا الطريق هو الأكثر شهرة فى العالم إلى العصر الحديث.
وانتظمت تجارة الحرير على هذا الطريق قبل ميلاد السيد المسيح عليه السلام، وظلت منتظمة لآلاف السنين. والجميل فى هذا الأمر أن طريق الحرير كان مسارًا ثقافيًا وحضاريًا واجتماعيًا له عظيم الأثر على المناطق التى يمر بها. ولم تكن التجارة أو الاقتصاد فقط هو ما يتم نقله عبر طريق الحرير، وإنما كذلك الديانات فعرفت آسيا دين الإسلام وعرف العالم البوذية، أكثر ديانات المنطقة شهرة آنذاك. وكذلك انتقل عبره بعض الأشياء المدمرة مثل البارود مما أدى إلى زيادة الحروب والصراعات بين الأمم والشعوب. غير أنه من المهم الإشارة إلى انتقال الورق عبره، مما إلى تحقيق إنجاز حضارى كبير ساهم بشكل كبير فى تقدم البشرية وحفظ ذاكرة الإنسانية من الضياع. وكانت الصين صاحبة الفضل فى اكتشاف الورق وانتقل إلى العرب عن طريق مدينة سمرقند القريبة من الصين. وأبدع العرب كثيرًا فى صناعة الورق. وكان مهمًا لهم لارتباطه بصناعة وتذهيب المصحف الشريف كى يتم تداول القرآن الكريم وحفظ كتابه الله المقدس فى سائر أقطار ومدن الحضارة العربية الإسلامية. وساهم طريق الحرير فى التقريب بين الشعوب وانتقال العديد من النظم الاجتماعية الخاصة بشعوب أواسط آسيا إلى الجزء الغربى من العالم. بيد أن الاقتصاد كان العامل الأهم والأدوم أثرًا والأكثرًا تأثيرًا وانتشارًا على مدن وحواضر هذا الطريق الطويل المتميز. ويكفى أن نضرب مثلاً بأنه بسبب طريق الحرير أصبحت الصين صاحبة الرصيد الأكبر من الذهب أكثر من جميع الدول الأوروبية فى القرن العاشر الميلادى.
وساهم ركوب البحر واكتشاف البحار فى رواج الحركة الملاحية بين الشرق والغرب على اعتبار أن الطرق البحرية أكثر أمنًا من الطرق البرية، خصوصًا مع اندلاع الحروب المغولية الإسلامية بأواسط آسيا. ومن ثم اندثرت معالم طريق الحرير البرى رويدًا رويدًا، وصارت البضائع والمعارف الإنسانية تأخذ مسارات بحرية منتظمة، من جنوب آسيا عبر المحيط الهندى ثم عبر البحر الأحمر عبر القوافل البرية من خليج السويس ثم إلى المراكب فى دمياط وما حولها من موانئ إلى شمال أفريقيا. وكذلك انتقلت منتجات شعوب مختلف بلدان أوروبا وآسيا إلى الصين. ومع تغير الخارطة السياسية والاقتصادية فى أوروبا وآسيا بعد القرن التاسع الميلادى، وخاصة تقدم تكنولوجيا الملاحة، برز دور النقل البحرى فى التبادل التجارى واضمحل دور طريق الحرير البرى التقليدى.
وفى النهاية، أقول لقد قام طريق الحرير بجعل الحضارات العريقة التى كان يمر بها تتبادل وتتأثر بعضها بالبعض، وكثف من الاتصالات بين الشرق والغرب عبر هذا الطريق المكون من شبكة طرق كبيرة ومعقدة.
إن طريق الحرير هو طريق الحضارة وطريق الحوار لدفع الحوار والتبادل بين الشرق والغرب والعالم ككل. ولعل إحياء مسار طريق الحرير بين مصر والصين وغيرهما من دول المسار هو إحياء لقيم حضارية واقتصادية وإنسانية جميلة وعظيمة يجب أن نحافظ عليها دائمًا وأبدًا.