بقلم: محمد منسي قنديل
في طريق الكتابة الطويل يسقط الكثير من رفاق القلم، ينتابهم صمت قاتم بعد أن كانوا لا يكفون عن الكلام، وتتوقف أناملهم التي لم تكن تطيق التوقف عن الكتابة، في هذه المهنة الصعبة، ندرك أن الكتابة هي دائما أكبر الكاتب، كلما واجه صفحة خالية بدا وكأنه يتحدى المطلق، يحاول ملأ فراغ السطور بالمعنى، ولكن الأمر لا يستمر بهذه الوتيرة، يتوقف الكثيرون في منتصف الطريق، أو بعد البداية بقليل، يتركون فقط أثرا واعدا، وحلما يبغي الاكتمال، تنطفئ لمعة القلق التي كانت تضيئ العيون، وتبقى اسئلة الحرية والحياة والمصير بلا جواب، أنها عقدة الكاتب Writer’s block ، حالة من الجدب والرعب من الورقة البيضاء، مررت أنا نفسي بهذه التجربة لعدة سنوات، لا ادري متى بدأت ولا كيف انتهت، ولكنها كانت أكثر فترات حياتي سوءا، ربما هي التي عجلت بمرحلة الشيخوخة، ففيها نفقد الكثير من مادة الحياة، وتجف بعضا من خلايا الابداع، اتذكر قول الشاعر الالماني “رلكة”: إذا كنت قادرا على العيش دون أن تكتب فلا تكتب، نوع من التساؤل الممض، فنحن داخليا في حاجة للكتابة وتحدي جفاف الذات، مشكلتنا الحقيقية أن الكتابة ليست مصدرا للرزق، هي فقط مصدرا للبهجة الداخلية، وعندما نفقدها تضيع بهجة الحياة، لذا على الكاتب أن يقوم بأمرين في آن واحد، يدبر مصدرا لرزقه، ويعمل على تجويد كتابته في الوقت نفسه، البعض لا يجيد ذلك، لا يستطيع أن يجد سبيلا لصنع هذا التوازن، واحيانا وربما دائما، تنتصر ضروريات الحياة، ترغمه قسوة الظروف الحياتية على التوقف، او على الاقل يقدم انتاجا شحيحا لا يتناسب مع طاقته أو موهبته، هذه مأساة الكاتب في عالمنا، عقدة الكاتب لا تأت من فراغ، ولا من مرض عضال كما يحدث في أماكن أخرى، ولكنه نتيجة لظروف الحياة القاسية، رغم أن المرض النفسي ليس مستبعدا، ولكن تخيلوا هذه الازدواجية، فرغم مسيرة الكاتب الابداعية يظل هاويا، يناضل في مكان آخر للحصول على قوت يومه، دون فرصة لتجويد عمله أو التوقف قليلا قبل السقوط في هوة “عقدة الكاتب”.
لم يظهر مصطلح “عقدة الكاتب” إلا مؤخرا، في الاربعينات من القرن الماضي، ادخله إلى الدراسات الأدبية طبيب الأمراض النفسية “ادموند برجلر”، فقد ظل يدرس على مدى عقدين من الزمن اعراض الموانع العصبية التي تحد من انتاج الكاتب، كان يريد أن يعرف لماذا لم يعد يملك الكتاب القدرة على الابداع بعد أن كانوا يتمتعون بالموهبة، وهل هناك علاج لهذه الظاهرة؟ وبعد مقابلات عديدة واختبارات نفسية أجراها على أكثر من كاتب، توصل لعدة نظريات اصبحت شائعة بعد ذلك، فعقدة الكاتب لا تعود لجفاف قريحته أو لشعوره بالإجهاد، ولا لافتقاده للدوافع الخارجية، او قلة الموهبة، او الكسل أو الملل، فماذا هو السبب إذن؟ ولأن “برجلر” ينتمي في خلفيته إلى مدرسة التحليل النفسي التي اقرها فرويد، فقد توصل إلى أن العديد من الكتاب يعانون من اضطرابات نفسية، ويبحثون عن الدعم النفسي من خلال عملية الكتابة، وازدياد العبء النفسي عليهم هو سبب فشلهم في الاستمرار، أي أن “عقدة الكاتب” هي عرض نفسي بالأساس يحتاج للعلاج، واذا استطعنا أن نزيل هذا المرض سوف تحل العقدة بالتأكيد، حل بسيط ولكنه غامض ويعتمد على الافتراضات، كيف يمكن اثبات أن الكاتب يلجأ للكتابة كنوع من الدعم؟ وكيف نعرف أن اصل كل هذه المشاكل هي عقد نفسية، وماهي العقد النفسية أصلا؟
فتح “برجلر” الباب لمزيد من البحث في هذه المنطقة الغامضة، واجرى الاطباء النفسيون المزيد من الابحاث على عينات من الكتاب المتوقفين في كل انواع الكتابة، ووجدوا أنهم يفتقدون للتصميم المبدئي الذي يدفعهم للكتابة، فهم يشعرون أنهم لا يحققون تقدما في كل مشروع يعملون عليه، وهم جميعا غير سعداء، يعانون من حالات الاكتئاب والقلق، وهناك مجموعة منهم تعاني من ارتفاع درجة النقد الذاتي بداخلهم، وانخفاض درجة الاثارة والاعتزاز بما يقومون به من اعمال، يضاف إلى ذلك بعض اعراض الوسواس القهري، مثل التكرار، فقدان الثقة في النفس، تسويف الأعمال والمماطلة، البحث عن كمال لا يوجد، ولكن العرض المرضي الذي يعزز عقدة الكاتب بالفعل هو النفور من العزلة، وهو سلوك معاكس لعملية الابداع التي تحتاج للانفراد بالنفس لأوقات طويلة، وليس كل الكتاب متشابهين في عقدهم واعراضهم المرضية، ولكن يمكن تقسيمهم إلى انواع اربعة، المجموعة الأولى التي يسيطر القلق والتوتر عليها، اكبر العوائق عندها هو الاضطراب العاطفي العميق وفقدان المتعة التي تحدثها عملية الكتابة، وفي المجموعة الثانية تبدو اعراض عدم السعادة وكأنها أمر غير شخصي، فالكاتب يبدى الغضب والتوتر من افعال الآخرين ولكنه لايقترب من ذاته، وتضم المجموعة الثالثة غير المبالين، الذين يحرصون على عدم الارتباط بأي شيء، بينما يميل افراد المجموعة الرابعة إلى الغضب والعدائية والسخط على كل شيء، لا يتوقفون عند درجة الحزن العادي، ولكن نشاطهم العاطفي كله يأخذ طابعا سلبيا، ورغم اختلاف الأنواع فكلها اعراض مترابطة منطقيا، وهم يتشاركون جميعا في انخفاض مستوى دوافعهم ، فهم اقل طموحا، واقل استمتاعا بعملية الكتابة، واقل ابداعا بطبيعة الحال، واقل قدرة على تكوين الصور داخل مخيلتهم، والصورة التي يكونونها اقل حياة، بل أنهم لا يستغرقون حتى في احلام النهار.
هل يمكن أن يتغلب الكاتب على عقدته ويستعيد حيوية خياله؟
أريد التوقف قليلا عند تجربة الكاتب الشهير جرهام جرين، وأنا من عشاقه ، وهو من أكثر الكتاب الإنجليز غزارة في الانتاج، ووصفه البعض بأنه اشبه بنبي، متواضع ومدهش، لذا فمن من الصعب التصور أن رجلا كتب كل هذه الروايات وهو يطوف مختلف بلدان العالم، وعمل جاسوسا لبلاده اثناء الحرب، وكان الحاكم الفعلي لسيراليون يمكن أن يصاب بعقدة الكاتب، وهو في الخمسين من عمره، في قمة مجده، ولكن إذا عدنا قليلا إلى الوراء، إلى مرحلة الصبا التي شكلت ملامح شخصيته، فسندرك كيف امتلك القدرة على المقاومة، في عام1920 قرر جرهام جرين وهو في السادسة عشر من عمره أنه بعد 104 اسبوعا من الرتابة، والاهانة، والاجهاد العقلي آلا يبقى بعد ذلك في بركامستيد حيث كان طالبا مدرستها الثانوية، فر منها تاركا خلفه مذكرة لوالديه، وكان ابوها هو ناظر المدرسة، وكان يعامله بقسوة وتزمت، وقد سبب هذا الهرب اضطرابا لعائلته، ولكنه كان امرا مفرحا لجرين، لقد حصل على اجازة من المدرسة التي كان يكرهها ويخشى أن يغادرها، ترك الدروس واكتسب عادة جديدة سوف تؤثر في حياته ككاتب، ظل يحتفظ بدفتر يوميات، يكتب فيه كل يوم، ينفس في سطوره عن الضغوط التي كان يعاني منها، لذلك استطاع أن يواجه عقدة الكاتب بشكل إيجابي، لقد منعته العقدة من تطوير اي قصة يفكر فيها، ومنعته حتى من التفكير في بداية كتابتها، ولكن عادته كتابة مذكراته اليومية انقذته من ذلك، كان جرين يرى أنه لا أحد يرى احلامه سواه، ولا يمكن لاحد يمكن أن يقاضيه أو يعترض على الحقائق أو الأكاذيب التي ترد فيها، لقد واصل الكتابة بدأب في مذكراته، احلامه، ووقائع حياته العادية، والنميمة التي يسمعها من جيرانه، وفي النهاية اختار منها عدة مقالات لينشرها في كتاب” عالم من ملكي”، لقد عالج نفسه بنفسه، بفضل نوع واحد من الدواء هو الاصرار.