بقلم : شريف رفعت
أقود سيارة الأجرة على مهل باحثا عن زبون، الوقت بعد منتصف الليل، ليل سبتمبر الجميل في الإسكندرية، ترى هل هناك من سيطلب خدماتي في هذه الساعة و في هذه المنطقة الغير مزدحمة، المنتزه في شرق الإسكندرية عند أول طريق الكورنيش. أراه واقفا على الرصيف يشير لي، أتوقف له، يدخل السيارة، يحيني و يجلس، ثم يقول لي:
ـ راس التين يا أسطى.
أنطلق بالسيارة على طريق الكورنيش، أخفض صوت المذياع و أسأله:
ـ تحب تسمع أغاني؟ عندي مجموعة كستات كبيرة حتعجبك.
ـ سمعنا حاجة للست.
أخرج عدة كاستات أختار منها أغنية “أنساك يا سلام” و أضعها في الجهاز، ينطلق صوت ثومة جميلا قويا و شاجيا، مزيج الكلمات و اللحن و الصوت رائعا، السيارة نوافذها مفتوحة، يدخل منها نسيم ليلي عليل مختلطا برائحة البحر، السماء صافية مرصعة بآلاف النجمات، الطريق شبه خالِ، صوت ثومة الساحر يجعلني أنا و الزبون في حالة إنسجام و نشوة كاملتين. يقول لي الراكب:
ـ على مهلك يا أسطى إحنا مش مستعجلين.
فعلا أبطيء السرعة و أنظر في المرآة للرجل، يبدو في الستينيات، ملامح وجهه تظهر إنسجامه الكامل مع الأغنية. تشدو أم كلثوم “إن كنت أقدر أحب تاني، أحبك إنت”، تتدلع في “أحبك إنت” فيصيح الجمهور إنسجاما و يتأوه الراكب طربا. عيناه تلمعان في ضوء السيارة الخافت، هل هي دموع عالقة بالعينين يحاول منعها لأنه رجل و الرجال أغبياء لا يجب أن يظهروا مشاعرهم؟ تستمر الرحلة آخر مزاج، المشوار المفروض قطعه في خمسة عشرة دقيقة أخذ مني نصف ساعة، وصلنا رأس التين قبل السراية بعدة شوارع، قال لي الرجل:
ـ الشارع إللي على شمالك يا أسطى.
أدور بالسيارة و أبطيء السرعة كي أدخل الشارع، لكنه يقول لي:
ـ لا، نزلني هنا، كام الحساب؟
قبل أن أرد يضيف:
ـ ولا أقولك، إرجع بينا تاني على المنتزه.
أتردد لحظة، أنظر له متمعنا للتأكد أنه ليس سكرانا و لا محشش. يكرر مؤكدا:
ـ أيوه إرجع بينا.
تمر بي في عملي كسائق سيارة أجرة العديد من النماذج الغريبة، لن يكون هذا الزبون أغربها. أنطلق بالسيارة عائدا فيضيف:
ـ وَقــَف بينا عند عزّة.
عزة محل چــيلاتي مشهور في حي بحري، أقف عنده، يسألني:
ـ عاوز چــيلاتي إيه؟
أفكر في الرفض، فليس من عادتي أن أقبل أطعمة من الزبائن، لكن جو الإنسجام الذي يحتوي الليلة يدفعني للقبول، يكرر سؤاله:
ـ أنا سآخذ ڨـانيليا و فزدق، آجيب لك إيه؟
أرد:
ـ ألف شكر يا بيه، آخذ زيك.
ينزل من السيارة، أنزل معه ذوقيا حتى لا يحمل لي الچــيلاتي و أنا في العربة، واضح أنه صاحب مزاج و أنه أيضا زبون للمحل لأن البائع يحييه بود. نعود أنا و هو للعربة و كل منا يحمل قمع الچــيلاتي الخاص به، تبدأ رحلة الرجوع، نفس الجو الجميل و الصوت الجميل يضاف لهما الآن مذاق جميل. تنتهي أغنية الست، أسأله:
ـ تسمع إيه تاني؟
يرد:
ـ نفس الأغنية.
أعيد تحميلها في جهاز التسجيل. قيادة سيارة أجرة في الإسكندرية ليست بالوظيفة السهلة، المنغصات كثيرة و المجهود العصبي أحيانا غير محتمل، لكن هذا المشوار من أمتع مشاويري. أنظر في المرآة لأشاهد الانفعالات على وجه الرجل، لا شك أن في حياته قصة حب ملحمية. نصل على مهلنا إلى المنتزه، نفس النقطة التي إلتقطه منها، يفوق صاحبنا من إنسجامه ويقول:
ـ عال، إرجع بينا تاني على راس التين.
أتردد لحظة، لكن أكل العيش ليس فيه تردد أو خجل، ألتفت للرجل و أقول:
ـ ممكن بعد إذن حضرتك تدفع لي ثمن المشوارين إللي عملتهم.
يخرج الرجل محفظته، أخبره عن المبلغ، يضيف إليه ثمن الرجوع لرأس التين و يقول:
ـ أديني بادفع لك مقدما كمان ثمن الرجوع.
آخذ النقود و أشكره، أبدأ رحلة العودة و تستمر المتعة، طريق شبه خال، سماء صافية، جو جميل و أغنية رائعة، أقود السيارة ببطأ نسبي و أتمنى أن تستمر هذه الرحلة للأبد.
نصل للشارع الجانبي المفروض أن به وجهته، أنتظر أن يهبط لكنه يصمت برهة ثم يقول:
ـ معلش يا أسطى إرجع بينا على المنتزه.
أشعر بأن الموضوع زاد عن حده، يجب ان أتخذ موقفا حازما، قلت له بأدب:
ـ والله يا بيه أنا تعبان بعد يوم شغل طويل و عاوز أرَوَح أستريح.
يتردد برهة ثم ينزل متثاقلا، يقف على الرصيف بينما أنطلق أنا بالسيارة، أراه في المرآة الخلفية مازال واقفا يحملق في السيارة. قدت السيارة عدة أمتار، سألت نفسي هل كان غباء و أنانية مني أني إعتذرت للزبون و أنزلته من العربة. بدون تفكير أعكس إتجاه العربة و اعود للنقطة التي نزل عندها الرجل، كان قد إختفى فدخلت في الشارع الجانبي الذي دخل فيه لكني لم أجده، كان هناك منزل على اليمين وقفت بالسيارة أمام بابه و صحت:
ـ يا أستاذ يا أستاذ.
لم يأتني ردا، تحركت عدة أمتار إلى مدخل منزل آخر على الشمال، إقتربت من باب المدخل و صحت مرة أخرى مناديا على الرجل لكن لا من مجيب، أستسلم للأمر الواقع، أقود السيارة عائدا إلى طريق الكورنيش.
الجو جميل، نسمة هواء منعشة محملة برائحة البحرتدخل من نوافذ السيارة، الطريق شبه خالٍ، السماء صافية و أم كلثوم تصدح بغنائها. لكن لا أدري لماذا لم أكن مستمتعا و لا سعيدا كما كنت من قبل.