قصة : إيناس العباسي
لم يكن أبي ليتركنا ننام بسلام.
ولذلك دأبت أمي يومياً على اغلاق باب غرفة نومها. بعد أن نتعشى ونشاهد برنامج المسابقات الذي يسبق أخبار الثامنة مساءا، تُدخلنا أنا وأختي لننام معها في فراشها. حين يعود أبي أخيراً، تستيقظ أمي على حركة دخوله للمنزل فتنهض في قفزة واحدة لتتأكد من أنها أحكمت اغلاق الباب. ثم تسحب منضدة الزينة وتدفع بها وراء الباب كاحتياط إضافي.
كان أبي يعود متراقص الخطوات مترنما بأغنية «عش أنت»،كل يوم أو يومين حسب ما لديه من نقود. وحين لا تفتح له أمي الباب يضربه بقبضته وساقيه الى أن يتعب فيجثو على ركبتيه مستجديا إياها أن تفتح. ثم يغضب مجددا فيجلب آلة المُسجل ويضعها أمام الغرفة مباشرة. يختار شريطا حسب مزاجه ويشغله على أعلى درجة للصوت.
وبين وصلة موسيقية وأخرى يردد المقاطع التي يحفظها عن ظهر قلب. يُمضي ما تبقى من الليل على عتبة الباب، كلما توقف الشريط أعاد تشغيله من جديد إلى أن ينام فتنام معه الموسيقى. في تلك الليالي الزرقاء كما تسميها أمي، كنت أستلقي على ظهري بعينين مفتوحتين مثل سمكة صغيرة لا تعرف ما الذي تفعله بنفسها في عالم الحيتان. أستلقي في الظلام عاجزا عن النوم مستمعا لصوت فريد الأطرش يتخلله غناء أبي وشتائمه من خلف الباب ونشيج أمي المستلقية بيني وبين أختي عفاف.
كثيرا ً ما تمنيت أن أحطم آلة المُسجل الخاصة بأبي ولأنني كنت أخشاه اكتفيتُ فقط بتخريبها. أذكر ذلك اليوم المشؤوم الذي خرّبتها فيه فخرّب ليلتنا. حطم كل الأشياء من حوله. لم يترك شيئاَ إلا وانتزعه من مكانه وألقى به أرضا، الأواني والتحف تحولت إلى زوبعة بلورية، اللوحات على الجدران تهشم زجاجها وخُدشت اطاراتها. لم يتوقف أبي ليلتها إلا حين هددته أمي بالاتصال بالشرطة. صمت للحظة ثم هددها بطردها من البيت.
ورغم أن كلماته تلاشت مثل دخان تحول إلى ذرات ارتفعت والتصقت بالسقف إلا أنني رأيت الخوف في عينيّ أمي. كانت من النوع الذي يفكر في ما وارء الأيام. وفكرة خروجنا من ذلك البيت الكبير لا تعني سوى شيء واحد بالنسبة لها: خسارتنا نحن أطفالها لما اعتبرتُه حقنا وميراثنا الذي ستتحمل أي شيء في سبيل حصولنا عليه. في ذلك البيت الذي كبرتُ فيه وورثه أبي عن أبيه، في الحقيقة ورثه هو وأعمامي لكنهم تنازلوا له عنه شفقة بنا، في ذلك البيت عرشت الرطوبة على الحيطان مثل غابة مُسطحة. كل شتاء كان البرد ينخر عظام البيت بدأب ورغم أننا كنا نضع دلاءا وأوانٍ لتتجمع فيها قطرات المطر التي تتسرب من سقوف البيت مثل دموع كبيرة الحجم إلا أنها كانت تتحول إلى برك مائية تنتشر في أكثر من مكان على الأرض. في ذلك البيت تحولت الشجارات والشتائم المتبادلة بين والديّ إلى طبقة سميكة سوداء الخضرة غطت كل شيء حولنا.
في طفولتي كنت أسرق الأشياء الصغيرة التي تعجبني. أقلام الأطفال في المدرسة، ساعة أختي المضيئة التي كانت تخبئها في البطانة الداخلية لوسادتها قبل أن تنام، الصنارات القديمة التي لم يكن أبي يستعملها بصفة منتظمة. حتى فرس البحر الذي يتدلى من المرآة الداخلية لسيارة خالي البيجو الحمراء، سرقته في غفلة منه في المرة الوحيدة التي أخذني فيها معه في جولة وسط المدينة. لكن رائحة فرس البحر المُحنط والتي ظلت عالقة في أنفي ويديّ طويلاً، كانت كريهة فأعدت تعليقه دون أن ينتبه خالي.
اختلف والدايَ حول كل شيء. اختلفاحتى على عبوة معجون الاسنان من منهما الذي يتركها مفتوحة الغطاء؟ اختلفا على أسماء الأطفال وقررا بعد ولادتي أن لا ينجبا المزيد. اختلفا حول كل شيء لكنهما اختلفا بالأساس حول المال الذي يصرفه والدي في الحانات وحول راتب أمي الذي تصرفه علينا وعلى البيت ولا تعطيه منه شيئاً. وبسبب خلافاتهما كرهت طفولتي وكرهت أبي. كلما تذكرت طفولتي تذكرت رائحة فرس البحر المعلق في سيارة خالي. اللعنة على تلك الرائحة الكريهة وعلى هذا الليل بأجنحته الشفافة يحملني إلى طفولتي التي دفنتها. يأخذني إلى صوت فريد والعلامات الزرقاء على جسد أمي. أمي التي كانت تخفي الأوراق المالية عن أبي في بطانة حمالتها السوداء المفضلة.
كانت ترتدي معظم الايام تلك الحمالة القطنية المخرمة بدانتيل تمزقت حوافه لقدمها ولا تغيرها إلا لتغسلها بعد أن تخرج منها الأوراق المطوية بعناية. لم تتوصل أمي إلى هذا الحل إلا بعد أن جربت مخابئ كثيرة اكتشفها أبي بسهولة. فسواء وضعت مالها في كيس بلاستيكي صغير دسته في علبة التوابل أو وضعته تحت الفرن أو غلفت المال بورق الألمنيوم وخبأت المُغلف في فريزر الثلاجة، كان أبي كثيراً ما يجد النقود بسهولة. كان موهوبا في اكتشاف مخابئها ليستحوذ على ما وفرته من راتبها. يأخذ بكل بساطة ما خططت أمي كي يكون مصروفنا لبقية الشهر، ليشرب به هو بضعة ليالي في حانة القط الأعرج.
بعد كل ليلة من ليالي القط الأعرج يستيقظ أبي برأس ثقيلة. يستيقظ بعد الواحدة ظهرا حين يكون السمك قد عاد إلى مخابئه العميقة في البحر كما يقول البحارة. فلا يخرج شباكه ولا يخرج من البيت إلا أول الليل. يستيقظ أبي بقهوة سوداء ثقيلة من دون سكر وسيجارة أولى. يضع أمامه أي عدد من أعداد جريدته المفضلة La presse ويفتحها على صفحة فك الكلمات المتقاطعة. بعد أن ينتهي من طقوسه الصباحية، يسألني ببراءة: قيس أين وضعت أمك النقود؟
أمي التي تكون وقتها في المصنع مُسمرة على كرسي وراء آلة الخياطة، قدمها تضغط على الدواسة الكهربائية وعيناها تتابعان بانتباه مسار الابرة السريع على القماش الأزرق بين يديها. هفوة صغيرة قد تتسبب في جرح إحدى يديها وتخرب عمل سلسلة من الخياطات اللاتي مرت على أيديهن قطعة القماش قبل أن تصلها.
عادة ما كنت أجيبه بجهلي أو أكتفي بالصمت. ومع الوقت توقف عن سؤالي. أصبح يباشر هوايته المفضلة دون مقدمات. يفتش الغرف ويُقلب في خبايا الأرائك والأثاث ويبحث في أدق الزوايا. يُبعثر الملابس في خزانة أمي ويتحسس جواربها، يقلب فراش السرير ويبحث داخل الأحذية وداخل الأواني في المطبخ. في دقائق قليلة، يُحول البيت الى مهرجان من فوضى الملابس والأواني وزجاج ما تهشم منها. ليكتفي في النهاية بأخذ المال القليل الذي تتركه لي أمي مصروف يومي. يأخذه مني عنوة فأجلس مرتعشا عاجزا والغضب يتلبسني أمام التلفزيون أشاهد الصور أمامي بعيون خاوية مثل محجري سمكة عمياء. يدخن هو سيجارة ثانية ثم يخرج غداءه من الثلاجة. عجة البيض بالنقانق والبقدونس، الأكلة التي أكلناها كل يوم تقريبا طيلة أول خمس عشرة سنة من حياتي. قبل أن أقرر الهرب من البيت.
لم أحب طفولتي يوما. طفولتي كانت مثل زورق مثقوب عبرتُ به النهر وفي منتصف الرحلة ارتفع الماء وتسرب لقاع الزورق حتى وصل إلى ركبتيّ. كدتُ أغرق لولا أني تشجعت وقفزتُ وواصلتُ المسافة المتبقية للوصول سباحة. هكذا كانت طفولتي، مثل السباحة في عتمة الليل والبرد هربا من أبي ومن خارطة الكدمات الزرقاء التي تتسع من يوم لآخر على جسد أمي. اليوم وبعد كل هذه السنوات ما زالت طفولتي مثل جرح يقطر دماءا سوداء. ما زال ليلي مُثقلا بأنفاس غضب تعفن من فرط قدمه.
ذات عيد باع أبي ثيابي وألعابي الجديدة كي يستطيع أن يسهر في حانته المفضلة. يومها وبعد أن فتشت أمي في كل مكان حتى في سلة الملابس المتسخة. وسط عملية البحث المُستعرة توقفت فجأة. لقد فهمت. الثياب والدراجة الهوائية الصغيرة الجديدة وبقية الألعاب التي تلقيتها كهدايا عيد من أقاربنا، سُرقت. جمعها والدي وباعها.
جلست أمي على أول كرسي أمامها وشربت ماءا باردا ثم خرجت. ذهبت لصانع أقفال وغيرت كل المفاتيح . حتى الباب الخارجي ركبت له قفلا جديدا. ليلتها حين عاد والدي في الثالثة صباحا، وجد الباب مغلقا. عاد من نفس الطريق. كل شيء كان مغلقا من حوله وما من حركة في الطريق. أطبق الليل فمه الكبير وتوقف عن الضجيج. في منتصف الطريق تماماً، تلبسه الشك. تُراه أخطأ العنوان وطرق بابا آخر؟ استدار ليعود من نفس الطريق لكنه لم يتقدم سوى خطوات قبل أن يقفز في الهواء قفزة، اثنتان، ثلاثة…هوبببب ووجد نفسه تحت السيارة التي مرت من فوقه. في حركة يائسة تشبث أبي بطرف السيارة الخلفي الناتئ بينما استمر السائق الثمل في جره لأمتار طويلة قبل أن ينتبه لصراخ بعض المارة الذين تابعوا ما يحدث بذهول.
بعد هذا الحادث آمنت بأن والدي مثل قط أسود بسبع أرواح كما اعتادت جدتي أن تقول. ليلتها حمله الناس للمستشفى فاقدا للوعي وحدد الطبيب اصابته بكسر في ساقه اليُمنى. كسر نتج عنه شيئين: ملازمته للبيت لأكثر من شهرين وحصوله على مبلغ مالي محترم كتعويض من شركة التأمين.
*فصل من رواية «أشكل» للكاتبة التونسية إيناس العباسي صادرة عن دار روايات –الشارقة (2016)، في 145 صفحة من القطع المتوسط.