الرسالة- بهيج وردة:
بين باطن الغلاف الأول والغلاف الأخير مقولتان متضادتان. الأولى بحسب الغارديان البريطانية تصف الكاتب بأنه «أفضل كاتب عربي على قيد الحياة»، والثانية هي نصيحة من الناشر بعدم شراء الكتاب وهو ما قد يبدو كليشيه تسويقية مستهلكة إلا أن الجملة اللاحقة التحذيرية «كونوا حذرين من قراءته خشية أن يفسد ما تبقى من حياتكم»، تجعل جملته الأولى مسوغة تسويقياً، لكن على ما يبدو فإن الجملتين قد شكلتا مزيجاً تسويقياً متفجراً، يضاف إلى اسم الكاتب الشهير لاتخاذ قرار باقتناء الكتاب، والنوم إلى جوار ما يفسد ما تبقى من حياتك المبهجة في هذا الزمن المرهق.
ليس من السهولة بمكان أن تثير دهشة مدمن أخبار في العالم العربي. إلا أنك مع كل قصة تعيشها بين دفتي كتاب «معرض الجثث» للكاتب والسينمائي العراقي حسن بلاسم المقيم في فنلندا، فإن فصول الدهشة تتسرب بقوة أكبر من مسامك، وينجح بلاسم في استفزاز فضولك إلى حده الأقصى، الأمر الذي يجعلك تسلم في النهاية أن القسوة والعنف مكانها القصص لا نشرات الأخبار الفجة.
مع الصفحات الأولى تبدأ باختيار نهايتك اعتماداً على فلسفة الموت المكثفة التي تنداح من أولى القصص –في حال لم تكن قد فكرت بالموضوع قبلاً، وفي حال فكرت عليك بمقاربة ما يعرضه لك من مقترحات.هل تفضل الموت في سيارة اسعاف أم غابة؟. تسأل نفسك وأنت تقرأ. شخصياً كنت أفضل الموت في غابة، لكن نظراً لفلسفة الموت التي يتمتع بها مدير قسم الطوارئ في المشفى، ستبحث عن أفضل وسيلة تعزز «وهم الهروب بعكس الاتجاه».
صناعة البطل التلفزيوني «الجلاد» واقعاً في الأسر، حقيقة تتعرف عليها في حديث سائق سيارة الإسعاف اللاجئ في مالمو. لوهلة تصدق أن كلامه واقع، وأن ما يتم تصويره من أشرطة جهادية هو لعبة محكمة الحبكة، وفي لحظة حين تقترب النهاية تشك من بقية سرده أنه يخترع قصة، وهو ما يود بلاسم أن يوصله لقارئه في قصة قصيرة مليئة بالخيال والنهايات المفتوحة على احتمالات لا حصر لها، ليسأل ببساطة عن إنسان.
يصعب أن تتذكر متى بالضبط قرأت قصة «شاحنة برلين»، لكن من المؤكد أنه يستحيل نسيان مثل هذه القصة. كيف هذا وقد قفزت من فترة على شاشات التلفزة قصة شاحنة الدجاج التي توقفت على جانب الطريق في النمسا وتبين وجود جثث لأشخاص كان لديهم حلم العبور إلى أوروبا. لحسن حظ المهرب أن العالم العربي لا يقرأ وأن هذه القصة لم تنل حظوتها في الانتشار بالطريقة الكافية، وإلا ما كان لضحايا النمسا أن يركبوا بهذه الطريقة ليلاقوا حتفهم اختناقاً بهذه الطريقة، لكن بطل القصة كان محظوظاً كفاية ليستمع لحكاية علي الأفغاني الذي روى مثل هذه القصة.
لربما تظن ان حسن بلاسم يجول البارات الهامشية لالتقاط الحكايات الأكثر قتامة في التاريخ. حكايات الهلوسات والبوح والفجاجة، وكل الأشياء التي لا تخطر على بال ساكن برج زجاجي. هو هكذا يدفعك لترمي بنفسك من الطابق الثلاثين، ويلتقطك قبل الوصول إلى القاع بكل لطف. لن يهمك إن صار شعرك أبيضاَ أو التهمك ذئب في الطابق الرابع. اللامنطق رفيقك، وأبطاله في غاية الصدق فالغابة التي نعيش فيها لا تترك ما لا يمكن تصديقه. كيف لا وحكايات التهريب فيها مخزون لا ينضب من القصص، عدا عن نقاط تجمع اللاجئين الأشبه بخزان حكايات كل ما عليك أن تغرف منه وترميه بين دفتي كتاب.
مرات تشعر أن بلاسم يكتب هلوسات وأنه كان يحاكي نفسه، خصوصا عندما يقحم شخصيته في القصة ويكون أحد المستمعين للقصة كما في «عادة التعري السيئة»، أو عندما يستعير تقنية شهرزاد عندما يتركك مع نهاية قصة شائقة، مع وعد برواية تفصيل أكثر تشويقاً في الغد كما في «الملحن» عندما تنتهي القصة بالسطر التالي «غداً سأخبرك عن سر علاقة أبي مع أم طارق الكردية». جرعة عالية من التشويق يرميها في وجهك ويتركك لحكاياته على أمل أن تحمل الصفحات القادمة حكاية الغد، لكن ما أن تنغمس في المزيد فأنك سرعان ما تنسى لأن ما ينتظرك، يحمل المزيد من الدراما التي لا يمكن معها الرجوع إلى صفحات سابقة.
كل الروائح الواخزة تمر في رأسك، وأنت تشمها ملقى في برميل الطرشي (المخلل) الذي يحاول العم تهريب ابن أخيه فيه، أو عندما تتبول إلى جانب ثلة من النازيين الجدد في فنلندا قبل أن يتناوبوا ضربك وتشعر مذاق الدم، في كل المآسي تستغرب كما يستغرب أبو مريم من تلك الابتسامة، وتحاول البحث معه عن سر الابتسامة الساذجة، ربما لا يحق لمن مر بكل تلك المآسي أن يفتر ثغره عن ابتسامة بلهاء.
أعترف أغراني أن «معرض الجثث» حائز على جائزة الإنديبندت العالمية 2014، وكان حسن بلاسم أول كاتب عربي يحصل عليها و أول مرة تمنح لكتاب في القصة القصيرة، ولم آخذ تحذير الناشر على الغلاف الأخير على محمل الجد، واعتبرت كلامه خليطاً ترويجياً، لكن في الحقيقة أشك في قدرتي على النوم بـــ «سلام»، دون أن يكون مصيري كمصير «المسيح العراقي»، ولو حتى في المنام.