بقلم: تيماء الجيوش
التطور الحضاري لا بد ان يُمهد له تطور علمي معرفي على الصعيد كافة . و نشر العلم و المعرفة في المجتمعات ليس أمراً وليد اليوم بل يعود بجذوره إلى المجتمعات الإنسانية القديمة على اختلاف الشكل و المضمون .
و في مجتمعاتنا المعاصرة العلم هو الأساس و هو ما يُرتكزُ عليه في التفسير و الشرح بل إن المنطق العلمي له مصداقية تتقدم عما سواه و الأنظمة التعليمية هي المحور الكلاسيكي لنشر هذا العلم .
المجتمع الدولي يعي هذا الأمر تماماً ، اعتنى به و جعله جزءاً هاماً على صعيد القانون الدولي و المنظمات الدولية. جاءت منظمة UNESCO إلى جوار باقي منظمات الأمم المتحدة الفاعلة و تميزت بكونها تهتم بالتعليم و الثقافة و أهدافها تتبلور في حماية التراث الثقافي و حرية التعبير لدى الأفراد و حق التعليم و حل أزمته في مجالات العلوم و الرياضيات على سبيل المثال و الحصول على المعلومات. و بهذا تأتي أهداف المنظمة متسقةً مع المواد ٢٦ من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان Human Rights declaration وكذلك المادة ١٣ و ١٤ من العهد الدولي الخاص للحقوق الاقتصادية، الاجتماعية و الثقافية. .
(ICESCR) The International Covenant ON Economic, Social And Cultural Rights
مجتمعاتنا العربية هي جزء من نسيج انساني متنوع وغني و في البلدان العربية و عبر قرونٍ عديدة تعاقبت ظروف متباينة كماً و نوعاً على صُعدٍ سياسية، اقتصادية، اجتماعية، و ثقافية و جميعها تباينت بالتأثير على المجتمعات العربية كما هو الحال لدى بقية المجتمعات و الدول و أدّت فيما أدّت اليه إلى سواد التخلف و الجهل و تراجع العلم و التنوير الذي اختفى عن الساحة العربية ليس لعقود بل لقرون . على أية حال لم يكن الأمر كذلك فيما سبق بل كان النقيض تماماً . لا يختلف الباحثون بأن الحضارة العربية كانت إحدى الركائز التي دفعت بالحضارة الإنسانية قدماً عبر إثرائها علماً و ثقافةً . و لن يثير دهشتنا القول بأنه كان للمرأة العربية فيها نصيباً بأن تترك معلماً هاماً و صرحاً معرفياً لا زال قائماً حتى هذا اليوم و نعني بهذه السطور جامعة القرويين و مؤسستها فاطمة الفهري .
فاطمة هي إمرأة عربية تونسية من القيروان قال عنها ابن خلدون :» فكأنها نبهت عزائم الملوك بعدها». وُلِدت فاطمة في القرن الثامن الميلادي. هاجرت مع والدها و اسرتها من القيروان إلى مدينة فاس المغربية. ورثت عن والدها محمد الفهري الكثير و بعد وفاته أرادت فاطمة و شقيقتها أن تقوما بعملٍ يحمل أسم والدها فقادها ذلك إلى إعادة بناء مسجد قديم ووفقاً للعادات التي درجت في تلك القرون الماضية. فكانت النتيجة مسجداً كبيراً واسعاً يحمل أسم مسجد القرويين و فيه الكثير من الزخرفة و الفن . ما لبث جامع القرويين أن تحول إلى أكبر كلية عربية بعد انتهاء بناءه بقليل بل الأصح و كما تم تصنيفها عالمياً و من قبل منظمة اليونسكو UNESCO أول جامعة بدءاً من العام ٨٧٧ ميلادي و هي بهذا سبقت الجامعات الأوروبية بقرنين من الزمن أي جامعات ، نابولي ١٠٥٠ ، باريس التي أُنشِئت في العام ١٢٠٠ ميلادية و كلاً من جامعتي صقلية و بولونيا. كما انها نافست جامعة قرطبة و تعود أهمية جامعة القرويين الأكاديمية إلى حلقات العلوم التي كان تُنَظم بها من أدب، فلك، رياضيات و أُردِف هذا كله بمكتبة ضخمة ضمت ما يزيد عن ٦٠٠ الف مجلدٍ علمي واستقطابٍ واسع لعلماء من مختلف أنحاء العالم كان منهم ابن خلدون، ابن عربي، ابن رشد، موسى بن ميمون، بل و حتى بابا الفاتيكان سيلفستر Pope Sylvester II. الذي تعلم العربية و نقل العديد من العلوم و الرياضيات و الفلك إلى أوروبا . ويقال بأنه هو من نقل الأرقام العربية إلى أوروبا ايضاً. كانت لها أثراً أي الجامعة في أن تنشر المدارس في محيطها و تحتضن طالبي العلم من مختلف المشارب والأنحاء . و رسخ هذا التواصل و الاستمرار العلمي المكانة العلمية الرفيعة للجامعة في مراحل تاريخية متعددة و امتدت إلى أيامنا ربما بزخمٍ مختلف ، بكمٍ و نوعٍ أيضاً مختلفين لكن الجوهر بقي على حاله مؤسسة معرفية.
لعل دراسة هذه الجامعة و دورها العلمي و الأهم من ذلك دور المرأة البارز في نشر العلم و المعرفة ليس في مساحة جغرافية صغيرة بل تعداه عبر احتواءه للعلماء و الراغبين في دراسة في زمنٍ مختلف هو هام . لا خلاف في المجتمعات المعاصرة حول دور العلم و نشر المعرفة في التحديث الاقتصادي و الاجتماعي و السياسي و الرفاهية التي يمكن ان تُحدثها للأفراد داخل مجتمعاتهم المحلية. لذلك كان منطقياً أن ترتفع الأصوات المطالبة بضم النساء و احترام خبراتهن فيما يتعلق ببرامج السياسة ناهيك عن البرامج التعليمية ، لا بد ان ينتهي صمت النساء و بالتالي تمثيلهن بشكلٍ يليق بهن فدورهن ليس شكلي أو صوري او كما يُقال محلياً( كمالة عدد) و بهذا يمكن احداث التغيير الحقيقي و الدفع باتجاهات الحداثة و المعاصرة. مشاركة حقيقية و فاعلة . فاطمة الفهري بدأت مشروعها العلمي بمساواةٍ مطلقة، قررت انها ستبني صرحاً علمياً ، لم تعلم آنذاك انه سيكون منارةً علميةً لقرون ، لم تعلم انه سيكون اول جامعة في التاريخ ، ارادت ان تُخلّد اسم أبيها و حسب. لم تكن فاطمة كمالة عدد.
في كندا ، وطننا الأم الثانية، كان هناك سيدة تدعى ماري لاكوست جيرين لاجوي (1867–1945( هي مربية نسوية و محاضرة ، كانت من جيل الرائدات اللواتي أشرن إلى عدم مساواة المرأة في المراحل العمرية المختلفة. وما يضاف إلى تراث السيدة لاجوي أنها قامت بتثقيف نفسها من خلال مكتبة والدها نظراً لعدم قبول جامعات كيبيك النساء للدراسة فيها. قامت السيدة لاجوي بإنشاء مدرسة للفتيات تسمح لهن بمتابعة التحصيل العلمي العالي في العام ١٩٠٨. و كانت هي الناشطة التي دفعت قدماً منظمة Fédération Nationale Saint-Jean Baptiste. والتي هي منظمة نسوية فرانكوفونية تعتمد القانون في الدفاع عن حقوق المرأة في التعليم و المساواة. و هي بحق إحدى العوامل الهامة لظهور الحركة النسوية في كيبيك.
الحديث في الشق العلمي/ المعرفي يطول و له ابعاده المتعددة. هو هاجس مجتمعاتٍ بأكملها تقع تحت ظروفٍ استثنائية من حربٍ ووباء و فقر و جهل و تخلف في قرنٍ ظننا انه سيكون مختلف. لا بد ان نذكره لعل تنفع الذكرى و لعل دراسة و تبني دور المرأة الجذري و الأساسي هو التغيير الحقيقي الذي نرجوه في الثقافة كما في العلم و السياسة و الاقتصاد. شاركتكم في عدة مناسبات بانني ذهبت إلى جامعة كولومبيا العريقة في مدينة نيويورك للدراسة هناك . كنت اقدم نفسي بأنني محامية درست القانون في جامعة دمشق و كانت تسعدني نظرة التقدير لتلك الجامعة و تراثها و دورها التاريخي فيما مضى. سلاماً دمشق الشام، سلاماً القيروان، سلاماً فاس، سلاماً فاطمة الفهري. سلاماً كندا.