بقلم : نعمة الله رياض
في الصباح الباكر، في يوم قارص البرودة ، كان يجلس فواز علي أريكة موقف حافلات الركاب وهو يرتعش من االصقيع الذي يهاجم عظامه من خلال ملابسه االصيفية الخفيفة التي لا يملك سواها ، كان قد قضي ليلته نائماً متكوراً فوق أريكة الموقف ، توالت حافلات الركاب الوقوف واحدة بعد الأخري ولم يصعد لأيهم ، فليس هناك مكان يقصده أو هدف يبغيه ..
تجول بعينيه عبر الطريق حيث توجد عمارات وقصور مصر الجديدة ، أحدي الضواحي الراقية بالقاهرة ، لمح رجلاً مسناً ينزل من الحافلة يحمل علبة كرتونية عليها صورة مثقاب كهربائى ، بسرعة قام من الأريكة وسار خلف الرجل الذي كان يسير ببطئ ملحوظ ، كان هذا يناسب خطوات فواز، فقد كان يمشي وهو يعرج ! وصل الرجل العجوز أخيراً الي الباب الخارجي لمسكنه ، وبينما كان يبحث عن مفاتيح للقفل وللباب في جيوبه ، إقترب منه فواز وسأله :- هل تحتاج لعامل يساعدك يا سيدي ؟ أنا ماهر جداً في أي عمل تكلفني به . . نظر إ ليه العجوز بتوجس ورد عليه متأففاً :- لا .. لا أريد ، ألح عليه فواز :- أنا محتاج للعمل سيدي، وسأرضي بأي أجر تعطيه لي .. لم يتكلم العجوز بل فتح الباب ودخل وأغلقه بالقفل وهو يراقب الصبي الذي إبتعد بضع خطوات عن منزل العجوز ثم جلس علي رصيف الطريق .. مشي العجوز علي الممر المرصوف داخل الحديقة التابعة لسكنه ، وعلي جانبي الممر أشجار قصيرة للزينة ، بينما تنتشر داخل الحديقة أشجار البرتقال واليوسفي والمانجو وغيرها من أنواع ا لفاكهة ، أما علي أطراف الحديقة وملاصقة لسورها من الداخل فترتفع عالياً عديد من أشجار النخيل ستعطي ثمارها من البلح الأحمر في أوانها.. كان من الواضح أن العجوز يولي الحديقة عناية فائقة مما أضفي عليها رونقا وحسن التنسيق .. إقترب العجوز من باب شقته ، لكنه توقف بجانب حفرة كبيرة نتجت عن إزالة شجرة ضخمة كانت قد سقطت منذ فترة ، وإستأجر شركة لتقطيعها ونقلها لمجمع القمامة ..
فكر العجوز أن يستعين بالصبي ليساعدة في ملئ ا لحفرة بالتربة وتسويتها وإعدادها للزراعة ، أسرع عائداً نحو باب الحديقة ووجد الصبي مازال يجلس علي الرصيف واضعاً يديه في جيوبه لتدفئتهما ، ناداه العجوز فقفز فواز من مكانه وأسرع الخطي حيث يقف العجوز خلف البوابة قال له :
- كم تطلب أجراً في اليوم ؟ – مئتان جنيهاً من الساعة العاشرة صباحاً حتي الخامسة بعد الظهر ..
نظر العجوز في وجه الصبي الأشقر بملامحه الطفولية وشعر رأسه البني الناعم وعينيه العسليتين ، ويبدو في السادسة عشر من عمره وسأله : – من أين أنت ؟ - أنا ولدت في مدينة حلب فى سوريا – هل معك إثباتاً للشخصية ؟
- لا يا سيدي – إذن فأنت مقيم غير شرعي – نعم سيدي.
- أنظر، سأدفع لك مائة جنيهاً في اليوم ، إقبل ذلك أو إنصرف في الحال..
- أقبل سيدي فأنت في مقام والدي ..
فتح العجوز البوابة وأدخل فواز وأراه الحفرة ، أشار إلي كومة من التربة في آخر الضلع المقابل للحديقة وبجانبها جاروف وعربة مخروطية بعجلتين وذراعين وقال له : – إملأ هذه الحفرة من التراب الذى تحضره من التل هناك -أمرك سيدي..- هل تناولت إفطارك ؟ – لا يا سيدي ولا حتي طعام العشاء أمس ! – إنتظر برهة سأحضر لك من المنزل شيئاً لتأكله – ممنون سيدي ! جلس فواز يأكل في نهم ما أحضره له العجوز وشرب كوباً من الشاي كان ينتظره ليبعث قليلا من الدفئ في مفاصله .. ثُم قام وإتجه نحو العربة والجاروف ليباشر العمل بهمة ونشاط حتي إنتهي من ملئ الحفرة وتسويتها في أقل من ثلاث ساعات .. جلس علي الأرض ليستريح وأخرج هاتفه المحمول من جيبه ليجري إتصالاً مع صديق سوري يعمل في الإسكندرية ، لم يكمل طلب الرقم حتي فوجئ بالعجوز يقف خلفه ويصرخ فيه قائلاً : – أنا لا أعطيك مائة جنيهاً لتدردش في التليفون – آسف يا سيدي، هل من عمل آخر تطلبه مني ؟ – بالطبع ، بلل قطعة الأرض التي غطيتها تواً ، وأنثر عليها تقاوي الخضروات والطماطم – أين توجد هذه التقاوي ؟ – في صندوق بجانب البوابه – سأفعل ذلك سيدي . أنهي فواز عمله وأعطاه االعجوز المائة جنيهاً وقبل أن يغادر طلب منه العجوز رقم هاتفه المحمول ، ربما يحتاج اليه لاحقاً .. ذهب العجوز إلي شقته وتمدد علي فراشه ، نظر متأملاً جدران وسقف الغرفة الضخمة ، كان يقيم وحيداً في مسكنه الكبير والذي ورثه من أبيه وقد بناه جده عندما كان حي مصر الجديدة حديث الإنشاء ، توفت زوجته وتزوجت إبنته الوحيدة وهاجرت إلي أوروبا .. كان يعيش مما تدره عليه شهادات الإستثمار البنكية إلي جانب معاشه الشهري .. أحس ببرودة الغرفة ، فشغل المدفأة وتذكر الصبي السوري وتسائل في نفسه ، أين سيقضي ليلته في هذا الطقس البارد؟ هل في موقف الحافلات كماأخبره عن الليلة السابقة ؟
صح توقعة عندما إتصل به تليفونياً .. إرتدي ملابسه وتوجه للموقف حيث وجد الصبي منكمشاً في ركن الأريكة ، قال له :-تعالي معي للمنزل – شكراً سيدي ، أنا أحتاج لجدران منزل لتحميني في هذا الزمهرير القاسي ..
أدخله العجوز في غرفة الضيوف وأحضر له مشروباً ساخناً وسأله :- هل أسرتك في سوريا؟ – كان لي إسرة ، أبي وأمي وأختي ، إلي أن هاجمنا مسلحي داعش وقتلوا أبي وإختطفوا أمي وأختي ، قال ذلك والدموع تنساب علي خديه ، إستطعت الهروب إلي ميناء اللاذقية مع إثنين من أصدقائي ، وساعدنا بعض الرجال من مدينتنا حلب علي التسلل إلي باخرة متجهه إلي الإسكندرية ، ومنها سافرت إلي القاهرة لإني علمت أن بها رجال أعمال سوريين إفتتحوا العديد من المطاعم والمخابز وغيرها من المشروعات التي يمكن أن أعمل بها ..- وهل تعمل الآن ؟ – كما تري سيدي ، من الصعب الحصول علي وظيفه .. – وما سبب عرجك ؟ – أثناء هروبي من الباخرة في الإسكندرية تعثرت قدمي في مسمار علي أرض الميناء وفقدت بعض الدماء عند إخراج المسمار من قدمي ثم ضمدت الجرح في صيدلية بالمدينه– وهل أعدت تطهير الجرح ؟ – لا سيدي ، لا أملك نقوداً لهذه الرفاهية ! – هل يمكنني مشاهدة الجرح ؟ – تفضل – يا إلهي إنه متقيح تماماً ولون الجلد حوله أحمر قاتم وتورم القدم مقلق للغاية ، أنت بالتأكيد تحس بألم عند المشي – الألم لا يطاق با سيدى – واضح أن الجرح تحول إلي غرغرينا تنتشر بالتدريج إلي ساقك ، لابد من نقلك للمستشفي – لا أرجوك يا سيدي فليست معي أوراق ثبوتية وسيتم ترحيلي لسوريا– لكن حياتك في خطر شديد وقد تموت مسموماً – هذا قدري سيدي – لا تستسلم ، إنتظر ، لقد تذكرت طبيباً كان يخدم معي في سرية طبية في الجيش أثناء حرب أكتوبر1973، كنت مساعدا له في عمليات كثيرة لبتر الاطراف التي تهشمت في ميادين القتال ، والآن تعدي الثمانين من عمره إن كان علي قيد الحياة ..إتصل بالطبيب تليفونياً ولحسن الحظ رد عليه مرحباً ، شرح له العجوز حالة فواز والحاجة الملحة للبتر ، وسبب رفضه دخول المستشفي .. وافق الطبيب بعد ترددعلي الإشراف علي عملية البتر بشرط إعداد غرفة للعمليات مجهزة بكافة أدوات الجراحة والتخدير والأكسجين والمسكنات والمضادت الحيوية وأكياس الدم إلي آخر تلك المستلزمات . وافق العجوز وفواز علي إجراء عملية البتر، علي أن يقوم العجوز بإجراء الجراحة تحت إشراف الطبيب .. تمت العملية بنجاح وتم إغلاق وتقطيب مكان البتر .. أحس العجوز بشعور جياش نحو الصبي ، وأن الله أرسله اليه ليكمل رسالته في الحياة ، وطلب من الصبي البقاء ليعيش معه ..
وهكذا كتب لفواز عمر جديد وأصبح له أب يرعاه ، بل لم يعد يلقب بفواز الأعرج ، فقد إتفق أبوه الجديد مع شركة للأجهزة التعويضية علي تركيب رجلاً صناعية يمشي بها فواز بلا ألم …