بقلم: درويش صايغ
أعتقد ان الحديث عن زمن جميل أو فترة زمنية جميلة مرت في حياتنا أمر سوف يمضي بنا إلي مجموعة كبيرة متشعبة من قضايا وأمور سوف تفسح المجال أمامنا لدراسته ولتحليل ما نستطيع بعد أن نضع مبضعنا على مركز الجرح المتورم وقد بتنا نشعر أننا نعيش عصراً آخر غير ذلك العصر الذي نطلق عليه الزمن الجميل ، فما يحدث حولنا وما نعانيه من أنباء وأخبار على مدى الأيّام ، التي تحضر في نفوسنا خنادق ووهاداً من الألم ومن تراكم الأحداث وأرتفاع مستوى التفاعل النفسي مع كل ما يمر بنا ومع كل ما بتنا نعانيه ونحن نستشعر ذلك الجرح الغائر في حياتنا اليومية ونحن نصدم كل يوم ونفاجئ بكثير من اليأس ومن التلاشي ومن الأنسحاق تحت سنابك القهر وتوابعه وتحت أي مسمى آخر نبتدعه حتى نستطيع تقبله والتعايش معه. لعل الإحساس بزمن جميل عايشاناه في فترة زمنية من حياتنا هو تلك المرآة التي نقف أمامها فنقارن ذاتنا الآن وعما كنا عليه من قبل . المرآة تضعنا وجهاً لوجه أمام الذات . نحن سوف نحاكم فترات متواصلة من حياتنا وسوف نصدر أحكاماً مناسبة لكل فترة من فترات العمر . الأمور تختلف من شخص إلي آخر ، الأحكام تختلف أيضاً، ليست لدينا نظرة واحدة لكل الأمور في كل العصور . الأحساس بالزمن ليس واحداً لدى الجميع . أختلاف الرؤى وأختلاف طبيعة الإنسان ونظرته لكل ما يحيط به من أمور ومن متغيرات الحياة تجعل من ذلك الأختلاف أمراً طبيعياً طالما ان الإنسان جاء مختلفاً .
يقول أحد فلاسفة اليونان القدماء أن المرء يقع في حِدة الأختلاف مع الآخر طالما أنه لم يكن هو ذلك الآخر .
في الحديث عن زمن جميل سوف نعترف أننا جميعاً كنا في فترة زمنية ما نشعر بزمن جميل وكانت المنظومة الإجتماعية آنذاك كلها متضافرة حولنا تعطينا الأمان والأستقرار وتشعرنا بمجتمع متماسك متناسق خال من العقد النفسية منفتح على الآخر . في تلك الحقبة الزمنية من الزمن الجميل كأنما كان الجميع يريدون الأستمتاع بتلك الأيام الخالية التي لم نكن نمتلك بها قنوات فضائية ولم نكن نعرف الهاتف المحمول بعد ، وبعد كل تلك التكنولوجيا الطاغية التي سيطرت على كل مقومات حياتنا وتدخلت في مفاصل مشاعرنا وطغت على لحظات الحلم البرئ التي يعيشها الإنسان ، رغم انعدام ذلك التواصل الإجتماعي عن طريق الكومبيوتر ومتفرعاته ، إلا أن ذلك كان يؤلف التواصل الإجتماعي الطبيعي بين أفراد العائلة الواحدة وبين أفراد ذلك المجتمع وكان يخلق علاقات ودية حميمية مع الآخر وكأنما كانت الأرواح وكانت النفوس مترابطة برباط شفاف من العواطف الحقيقية ناصعة البياض شديدة الصدق . ربما كنا في تلك الفترة الزمنية نستمتع بقراءة الشعر ونطرب من اللحن الجميل والصوت المعبر .
ربما ونحن نتذكر تلك الفترة نشعر وكأننا كنا في حلم جميل نستيقظ منه على واقع غريب في كل شئ حولنا .
في تلك الفترة الزمنية التي نحاول أن نطلق عليها « الزمن الجميل « كان كل شئ هادئ حولنا ، ربما كانت أقصى أمانينا أن نذهب إلي احدى دور السينما بمشوار رومانسي حالم نعيش لحظاته وثوانيه ، أو أن نلتقي بمقهى نتجاذب أدراج الحديث البسيط أو أن نسمع آخر الليل أغنية لكوكب الشرق ، كانت أحلامنا بسيطة شفافة نلتقي بدون أتصال هاتفي ونتزاور بدون أعلام مسبق ، كأنما كان الواحد للكل والكل للواحد . لم نكن نعرف حدوداً بيننا وبين الآخر، كانت فترة زمنية غنية بمعطيات من الود والحب والتلاقي . كان الإحساس بالحياة يشدنا للتعبير عن خلجات أنفسنا بطرق حضارية راقية ممعنة بالتميز وبالانطلاق إلي الأعلى ، إلي درجات مبتكرة من التعبير عما نشعر به في تلك الأيّام الخوالي التي نستيقظ فيها اليوم على نقيض أيام جميلة وأحلام بسيطة . نستيقظ اليوم على مجموعة كبيرة من منغصات الحياة تحيط بنا من كل جانب فتقضي على بساطتنا وتمحو ذلك الأحساس المتمكن فينا بحب الحياة وبالحب السرمدي لكل شئ حولنا . تعصف بنا الآن مجموعة كبيرة من المتغيرات التي سيطرت بشكل أو بآخر على كل جزء من حياتنا وطغت على أنفاسنا . لم نعد نملك الأحساس بالتفكير بعد أن أستطاعت تكنولوجيا الأرقام والمعلوماتية أن تفكر عنا وأن نتصل بالآخر رقمياً وقد حرمتنا من تلك المتعة الشخصية بالأتصال وبالمبادرة أصبحت الفضائيات جزءاً من مأساتنا الشخصية وهي تنتقل بنا إلي موقع الحدث في ثوان معدودة وبتنا نعيش كل مأساة ثانية بثانية وقد كنا في الماضي نسمع بالخبر ، لا أن نراه ، بعد أيام أو أسابيع على وقوعه . ربما كان لهذا وجه آخر من الأيجابية ، إلا أنه الآن يضعنا أمام حائط مسدود لا نستطيع أمامه التفكير بل أننا بتنا عاجزين نتلقى ضربات مجهولة ولا نستطيع الدفاع عن أنفسنا . العولمة وتكنولوجيا المعلومات جعلت العالم كله قرية صغيرة ، إلا أن هذه العولمة والتكنولوجيا حطمت البيت الواحد وقسمته أشلاء بعد أن انشغل كل فرد في العائلة بجاهزه الألكتروني فقد بذلك أحساسه بمن في البيت وأصبح شغله الشاغل هو جهازه والغوص في أعماق ما يعطيه ذلك الجهاز وهو يستجيب لنقرات أصابعه . لم تعد هناك من فترات تلاق بين أفراد الأسرة الواحدة . العالم كله كقرية صغيرة تحطم إلي شظايا وفتات تلتقي على مائدة طعام دون أن تتبادل أي حديث أو كلام أو تفريغ لشحنة عواطف متراكمة لدى أيّ من أفراد الأسرة.
هذه العولمة والتكنولوجيا قتلت فينا الإنسانية ودمرت فينا الأحساس بالتفكير ، فهذه الأجهزة التي نحملها والتي تمتلئ بملايين المعلومات ، هي التي تقوم بالتفكير عنا ، ولم تعد لنا سلطة أن نحفظ أي معلومة في ذاكرتنا ، وهذا ما سوف نصل إليه من أمية ومن جهل وإلي فقدان الكثير من قدراتنا العقلية والتي سوف تقودنا مع تطور هذه الأجهزة الالكترونية إلي نوع من فقدان الذاكرة وإلي نوع من ضمور العقل الذي سوف ينتهي بنا إلي الأستسلام التام إلي كل تلك الأجهزة والتي سوف يتطور مفعولها يوماً بعد يوم وسوف نفقد نحن أمامها مواقعنا يوماً بعد يوم . أن أحساسنا بزمن جميل مر في حياتنا في فترة زمنية معينة سوف تمحوه من الذاكرة سيطرة العنف والقسوة والظلام الذي يتمدد في شرايين الوطن والمناطق المجاورة ، عنف وقسوة وظلمة تمر علينا كسحابات سوداء ما كنا قد أعتدنا عليها ولا عرفناها من قبل . نحن جيل الرومانسيات وأفلام الأبيض والأسود وأغاني محمد عبد الوهاب وأم كلثوم وليلى مراد وهدى سلطان وعبد الحليم حافظ وفريد الأطرش وفايزة أحمد وكل ذلك الجيل المبدع من فنانين وملحنين وشعراء . نحن ذلك الجيل نشعر بالغصة ونشعر بانفصام في الشخصية ونحن نعيش هذه الأيام التي من المفترض أن تكون أكثر سعادة ولكنها تفاجئنا بالقسوة وبالسطحية وبالتخلف يحيط بنا من كل جانب . لم تعد للعقلانية دور في حياتنا بعد كل تلك الانكسارات والانهيارات الخلقية التي كنا نعول عليها لتمضي بنا إلي مجتمع أفضل وإلي سعادة محتومة ، إلا أن الرياح تجري بما لا تشتهي السفن ، ونحن الآن أمام حائط مسدود لا حول لنا ولا قوة به بعد أن خسرنا مواقعنا وفقدنا قدرتنا لتصحيح البوصلة الموصلة إلي بر الأمان . ذلك الأحساس باليأس وبفقدان التوازن في هذا العصر الذي نمتلك فيه كل شئ وبتنا نعرف فيه كل شئ هو بسبب تملكنا لكل شئ وسهولة الحصول على كل شئ فانهارت الآمال والأحلام ولم يعد لنا ما نريد أن نمتلكه في مستقبل ما ، ولعل حالات الانتحار لكبار الفنانين الذي يمتلكون كل شئ تبدو وكأنهم لا يملكون شيئا ! لعلها معادلة صعبة ولغز غير قابل للحل بل ولعلها نهاية مرحلة سوف تبدأ بعدها مرحلة أخرى جديدة بايقاعات جديدة ومقامات مختلفة .