بقلم: شريف رفعت
في مدينتي الإسكندرية تقع المقابر في مكانين، مقابر العامود و الاسم يرجع لقربها من منطقة عامود السواري وهو الأثر الروماني الشهير و الذي له دلالة مميزة في تاريخ المدينة. المنطقة الثانية حيث تقع مقبرتي أسرتي ـ واحدة للنساء و أخرى للرجال ـ هي المنارة، لا أدري سبب التسمية حيث المنطقة بعيدة عن مكان منارة الإسكندرية القديمة و أيضا عن المنارة الحالية أو الفنار. مقابر المنارة تقع في حي باب شرقي قريبا من كلية الهندسة و التي تخرجت منها منذ عدة عقود، اعتدت أن أستظرف و أقول «الحمد لله مقبرتنا قريبة من الكلية، فإذا أصابني الملل من الرقدة يمكنني أن أخرج و أعمل دبلومة»، لكن ينتهي الأمر بأني الوحيد الذي يضحك على نكتتي هذه.
بعد خروجي على التقاعد أصبحت أتردد على المقابر بطريقة منتظمة، أتخير الأيام الغير مزدحمة حيث المنارة شبه خالية، أقرأ الفاتحة و بعض القرآن على روح أمواتي ثم أجوس بين المقابر مستمتعا بالسير منفردا. بعض أفراد العائلة اعتبروا هذه الزيارات دلالة على رقة شعوري و أحاسيسي المرهفة. بينما البعض الآخر بالذات الجيل الجديد اعتبروها بداية للخَبَل، أنا بصراحة أميل لهذا الرأي الأخير. الحقيقة أنه ينتابني شعور مريح و انا وسط المقابر، شعور لا علاقة له بأخذ عبرة من الموت و العدم، فالعـِـبـَر حولي كثيرة آخذها من النماذج البشرية الغريبة المحيطة بي دون ذهابي لزيارة المقابر. الشعور المريح مصدره البعد عن المباني القبيحة و المواصلات المزعجة و الزحام الشديد المقيت، هناك هدوء جميل يحتوي المكان، بالتأكيد المكان الوحيد في العالم الذي به تجمع لآلاف المصريين و مع ذلك يخلو من الضجيج و العراك و التصرفات الغبية هو المقابر.
تمر السنين و يزداد عدد نزلاء المقبرتين من أفراد الأسرة و تستمر زياراتي المنتظمة للمنارة. و مع مرور السنين أيضا يبدأ الوهن ينتابني و تتراجع صحتي، لا شيء خطير محدد، فقط التقدم في العمر و ما يصاحبه من ضعف و عدم قدرة على التركيز.
يقترح علي ابني المقيم خارج مصر أن أنتقل و أعيش معه، الخطوة كبيرة و خطيرة و مصيرية، أقاومها في البداية لكن بسبب إلحاح ابني أوافق على زيارته على سبيل التجربة. تستمر التجربة ثلاث سنوات يتأكد لي بعدها أني مخلوق سكندري فقد بدأت سكندريتي تؤلمني، كانت القشة التي قصمت ظهر البعير صباح يوم أعددت فيه صحن فول مدمس رائع مليء بالتوابل و عليه طماطم و بصل أخضر و طحينة، نظرت له بفخر و وله ثم طلبت من زوجة ابني أن تحضر لي خبزا، دائما أطلب منهم توفير خبز شامي أو بلدي أو ما يطلق عليه في بلدهم «بيتا» لكن في هذا الصباح لم يكن بالبيت هذا الخبز، اقـْتَرَحَت علي زوجة ابني أن أأكل الفول بالخبز الغربي الذي يطلق عليه «توست» أقول لها:
ـ عزيزتي لا يصلح أكل الفول المدمس «بالتوست».
فتجيب:
ـ عندي «كرواسون» هل أحضره لك.
فأحزم حقائبي و أعود للإسكندرية حيث سيدي المرسي أبي العباس و الميناء الشرقي و مطاعم جاد للفول.
بعد عودتي قررت الإقامة في نفس السكن مع أختي، تصغرني بستة عشرة عاما، و تعيش بمفردها، كنت أعتبرها في الزمن الماضي طفلة العائلة، الآن أشعر أنها تعاملني بشيء من الأمومية، كما لو كنت طفل يحتاج لرعاية، ينعكس ذلك في اهتمامها الزائد بأموري و لهجتها التي تميل للنصح و أحيانا للتقريع الخفيف.
بعد رجوعي بحوالي إسبوع قررت زيارة المنارة، طَلَبَت مني أختي أن أنتظر للغد حتى يمكنها أن تصحبني، أخبرها أنه لا داعي لأن تتعب نفسها و أني سأذهب بمفردي بالذات أن الجو جميل يشجع على الزيارة. أستقل سيارة أجرة و أذهب للمقابر، أجوس بين شواهد القبور باحثا عن مقبرتي الأسرة فلا أجدهما و يبدو لي المكان غريبا، بعد حوالي نصف ساعة من البحث و الحيرة أتصل بأختي كي أسألها النصح، تقول لي:
ـ عادي، يحدث هذا كثيرا بعد فترة غياب، عليك أن تبحث عن حارس المقابر لهذا الجزأ من المنارة و سيدلك على المقبرتين، اسمه عيسوي، إنده عليه و سيأتي لك، قل له إنك أخ الحاجة أمال، هو يعرفني فعندما أذهب هناك أوصيه على المقبرتين و «أشوفه».
سألتها:
ـ «تشوفيه»
ـ طبعا لازم «أشوفه» بما فيه القسمة.
احتاج الأمر مني للحظات كي أفهم المصطلح، ثم قلت لها:
ـ معقول، سأشوفه أنا أيضا، عشرة جنيهات معقولة.
ـ عشرة جنيهات لا تساوي شيئا سيعتبرها إهانة.
و لأني لا أود إطلاقا أن أهين السيد/ عيسوي قررت ان أشوفه بعشرين جنيه.
شكرت أختي و قلت لها أني سأسأل عن عيسوي، فقالت كمن نفذ صبرها:
ـ لا تسأل، مجرد أنك تنده عليه سيحضر لك.
و أنا واقف وسط المقابر ندهت «يا عيسوي»، في البداية كان النداء خافتا و على استحياء، أدركت ان عيسوي لن يسمع أبدا هذا النداء الخافت، ناديت مرة أخرى بصوت أعلى ثم أعلى ثم أعلى، لا أدري لماذا استمتعت بالموقف، و أنا واقف وسط المقابر أنادي بأعلى صوتي على شخص لا أعرفه و لم أقابله من قبل، كأن هذا النداء يريح الأعصاب، ثم خطر لي أنه قد يكون هناك بين الأموات من اسمه عيسوي و أنه قد يظهر لي صائحا:
ـ عاوز إيه يا جدع إنت؟
خفضت صوتي بعض الشيء حتى لا أزعج الأموات و استمريت في النداء، «يا عيسوي، عيسوي». مَـرَ غير بعيد عني رجل و إمرأة، نظرت لي المرأة بشفقة، ظنت أني فقدت عزيز علي اسمه عيسوي، و أني من الحزن و الفجيعة أصبحت مخبولا أطوف بالمقابر و أنادي باسمه، مصمصت شفتيها و قالت لزوجها بصوت خافت:
ـ مسكين ربنا يصبر قلبه.
لم يرد عيسوي على نداءاتي. خرجت من وسط المقابر لأحد الطرقات التي تشق المكان، سألت أحد العاملين بالموقع عن عيسوي فأكد لي أنه لا يوجد عيسوي.
اتصلت باختي مرة أخرى و حكيت لها ما حدث، سألتني:
ـ من أي بوابة دخلت للمقابر؟ البوابات عديدة و قد تقودك البوابة الخطأ لجزأ من المنارة بعيدا عن وجهتك.
ـ سائق سيارة الأجرة أنزلني عند البوابة المواجهة للترام.
صاحت أختي:
ـ ترام، لا يوجد ترام عند المنارة، أنت ذهبت إذا لمقابر العمود.
بالطبع لم أرى ملامح و جهي و إن كنت متأكد أنها اتسمت بالغباء الشديد. رددت:
ـ لا أدري لقد طلبت من السائق ان ياخذني للمقابر.
ـ كان مفروض أن تحدد له أي مقابر، ارجع الآن و سنذهب غدا للمنارة معا.
قبل انصرافي لم أدري لماذا عدت وسط المقابر و صحت بأعلى صوتي مرة أخيرة «يا عيسوي». انصرفت، غدا سأذهب للمنارة.