بقلم: محمد منسي قنديل
بعد رحلة سريعة للقاهرة، عاد الأديب سعيد الكفراوي إلى بلدتنا الصغيرة منتصرًا: لقد اكتشفت المكان الذي يجلس فيه نجيب محفوظ. كان هذا الأمر بالنسبة لنا أهم بكثير من إعلان كولومبس اكتشافه للقارة الجديدة، لحظتها كان الكفراوي شديد الحماس، ومازال كذلك بالرغم من أن الشيب لم يبق في رأسه شعرة سوداء، لقد كتب عشرات القصص القصيرة عن الريف المصري، لم يتوقف فيها عند المناظر الساذجة التي ورثناها منذ رواية زينب، ولكنه ارتقى برؤيته ليطرح من خلال طقوس الغرس والحرث اسئلته المهمة عن الحياة والموت، كان سعيد هو الذي قاد خطانا إلى مجاهل القاهرة وخباياها الأدبية، نحن أبناء الأقاليم السذج الذين كنا نخط الكلمات الأولى في صفحة الكتابة، وهي صفحة متسعة التي لا حدود لها، في ذلك اليوم ركبنا القطار المزدحم إلى القاهرة، كان لايزال آمنًا، وتقدم الكفراوي في طليعتنا يقودنا جميعا إلى مقهى «ريش « في وسط المدينة، حيث يجلس نجيب محفوظ لمدة ثلاث ساعات في كل يوم جمعة، من السادسة للتاسعة لا تزيد دقيقة ولا تنقص دقيقة، يشرب خلالها فنجانين من القهوة، ويدخل سيجارتين “فلوريدا” ويستمع أكثر مما يتكلم، ويتظاهر بالصمم إذا كانت هناك كلمات لا تعجبه، منذ اللحظة الأولى التي رأينا فيها نجيب محفوظ أدركت كم كان هذا الرجل بسيطًا وآسرًا، يصافح الجميع، ويستمع لهم، ويؤخر رأيه حتى النهاية، ويبتسم ابتسامة غير متكلفة. ويطلق ضحكة رنانة أحيانا، ويغض البصر عن رجال الأمن الذين لا يكفون عن إحصاء أنفاسه وكتابة التقارير عنه، يبدو في جلسته وسط مريديه كأنه راهب مصري قديم حليق الرأس، منحوت على وجهه خطوط من تجاعيد، رقيقة ومرهفة، كان يؤمن أن مصر لم تبق ولم تستمر إلا بفضل هؤلاء الصنف من الرهبان الذين يعملون في صمت دون انتظار لمديح أو ثناء، وكان هو واحدًا منهم، يملك المثل الأعظم في البساطة والزهد والعمل الدؤوب، يؤدي صلاة حارة ومستمرة.
من هذه اللحظة الأولى وقد عشقت حضرة نجيب محفوظ، عشقت تواضعه العظيم وهو يعتبر أن كل من في الجلسة أنداد له، ويتعامل معهم على هذا الأساس، لا يحرج أحد، ويقدم ما يستطيع دون مقابل، عشرات من السينمائيين الشبان كانوا يأتون إلى مجلسه، يطلبون منه التنازل عن حقوق قصصه من اجل تجاربهم الجديدة، وكان يوقع على هذه التنازلات دون تردد ودون مقابل، وعندما جاء الاديب التونسي حسونه المصباحي موفدا من التلفزيون الالماني لإجراء حوار مع نجيب محفوظ كانت نصيحتي له أن يستغل حالة الانضباط العظيمة عنده، فهو يخرج من بيته في شارع العجوزة المطل على النيل في تمام السادسة صباحا، يستيقظ كما تستيقظ طيور النهر، ويسير على قدميه مسافة طويلة بعض الشيء حتى يصل لميدان التحرير، وسط البلد، المكان الذي يعشقه، ويجلس على مقهى “على بابا” ليشرب الشاي ويقرأ جرائد الصباح، بعد ذلك يتجه على قدميه أيضا إلى جريدة الاهرام، وقد ظل محافظا على هذه الرحلة الصباحية الحميمة حتى قام أحد المهوسين دينيا بمحاولة قتله، وكان الأمن هو الذي منع هذا المشاء العظيم من استكمال رحلته، كانت نصيحتي لحسونه المصباحي أن يستغل هذا الروتين العظيم في تقريره، وهذا ماحدث بالفعل، فقد انتظر هو وفريقه من المصورين أمام بيته في الصباح وفاجأ نجيب محفوظ بالتصوير، ولشدة تواضع الاديب الكبير لم يعترض، ولم يطلب أي مقابل مادي، ولكنه استسلم لحسونه وهو يرافقه، وظفر الاديب التونسي بفيلم يساوي آلاف الدولارات، لأنه بعد يومين فقط من التصوير فاز نجيب محفوظ بجائزة نوبل واصبحت كل محطات التلفزيون في العالم كله تتلهف على هذا الفيلم.
ورغم كل جلساتي على مقهى ريش وسط عشرات الكتاب لم أتصور أبدا أن يواتيني الحظ، وأحضر واحدة من أكثر جلساته خصوصية وسط «شلة الحرافيش»، كنت قد سمعت كثيرًا عن هذه الشلة الخاصة، التي يحرص محفوظ على الالتقاء بها كل يوم خميس، ومن النادر أن يحضرها أحد خارجها، وكان اللقاء هذه المرة في منزل الممثل المعروف أحمد مظهر في شارع البطل أحمد عبد العزيز بالدقي، وكان الحضور يضم نخبة من أقدم أصدقائه مثل المخرج توفيق صالح مخرج درب المهابيل وصراع الابطال، والكاتب الساخر محمد عفيفي مؤلف التفاحة والجمجمة، وكان هناك أيضا الفنان الرائع بهجت عثمان، والناقد المعروف رجاء النقاش الذي بدا من خلال الجلسة أن نجيب محفوظ يحترمه ويكن له مودة خاصة، وكنت أعلم أن هذه هي مرتي الأولى والأخيرة، لأنني كنت أستعد للسفر خارج مصر، وهي رحلة طالت بأكثر مما كنت أتصور، وكان الحوار يدور ليلتها حول الممثل أحمد مظهر، وكيف يمكن أن يعود إلى السينما عودة قوية، بعد أن تضاءل حضوره على الشاشة، ووجدت الجرأة في نفسي أن أقترح أن يقوم مظهر ببطولة فيلم مأخوذ عن قصة لنجيب محفوظ تدعى «ضوء القمر»، وهي تدور عن شخص محترم جدًا يدخل ملهى يحمل الاسم نفسه، فيقع في غرام الراقصة هناك، وتقوده هذه العلاقة إلى الدخول في عالم المدينة السفلي، ويعاشر اللصوص والسفلة، ولم ألحظ الامتعاض الذي بدا واضحًا على وجه أحمد مظهر، وأخذت أدافع عن فكرتي بحماقة، وفي النهاية أمسك نجيب محفوظ بذراعي وقال لي هامسًا: هذا الدور لن يعجب أحمد بك، لا تنس أنه «برنس» ضل طريقه إلى عالم السينما، وسوف يظل ذلك البرنس، كانت هذه هي آخر مرة رأيت فيها نجيب محفوظ، وجلست إليه، لقد غاب عنا حقًا، ولكني أشعر أننا مازلنا جميعًا في حضرته.