بقلم: د. حسين عبد البصير
مدير متحف الآثار والمشرف على مركز
د. زاهي حواس للمصريات-مكتبة الإسكندرية
يعتبر متحف اللوفر واحداً من أهم وأعرق المتاحف العالمية، وفي البداية شُيد كقلعة تحمى مدينة باريس، وأصبح مقراً للحكم، ثم متحفاً خالداً يحفظ للبشرية ذاكرتها عبر الأزمان.
ويعد الجناح المصرى فى اللوفر من أبرز أجنحته، وبعد التوسعات الأخيرة التي وصفت بـ»الثورة» زاد عدد القطع المعروضة إلى حوالى خمس وخمسين ألف قطعة أثرية، وتضاعفت مساحة العرض فبلغت أكثر من أربعة آلاف وخمسمئة متر، تمتد عبر تسع عشرة صالة فى المتحف، ليصبح بذلك أجمل وأغنى المتاحف المصرية فى العالم، لدرجة أنه وُصف من قبل المختصين بـ»الجناح الأسطورى».
وتجىء البداية، فى الخامس عشر من مايو 1826، عندما أصدر شارل العاشر أمراً ملكياً بإنشاء «الجناح المصرى» فى اللوفر، وتعيين جان-فرانسوا شامبليون أميناً عاماً ل ه، تقديراً لجهوده الدؤوب ومناداته المستمرة بانشاء متحف للآثار المصرية.
وكانت الحملة الفرنسية على مصر بقيادة نابليون بونابرت 1798 – 1801، أولى محطات انتقال الآثار المصرية إلى فرنسا؛ اذ قام أفرادها بجمع ما استطاعوا جمعه من آثار مصر ليحملوها إلى فرنسا. لكن حالفهم سوء الحظ هذه المرة، فسقطت كل هذه الآثار التى جمعوها بما فيها حجر رشيد الشهير، فى أيدى أعدائهم الإنجليز بعد هزيمة عسكرية مريرة. وانتقلت تلك الآثار إلى إنجلترا، التى أسست بها واحداً من أروع أجنحة المتحف البريطانى فى لندن، وأعنى «الجناح المصرى».
وجاءت أولى مجموعات الآثار المصرية إلى اللوفر من صديق نابليون الشخصى وآخر مدير للمتحف الإمبراطورى الرسام الفرنسى المعروف فيفان دنيون، واشتملت على تماثيل ملكية عدة، ودخلت المتحف فى عام 1793. وتبعتها 16 قطعة أخرى فى عهد لويس السابع عشر.
وعندما اعتلى شارل العاشر العرش، عُرضت مجموعة ضخمة من التماثيل المصرية القديمة احتفاء بهذه المناسبة، واشتملت على تمثال المعبودة إيزيس الضخم من فيللا الإمبراطور الرومانى هادريان، وثلاثة من تماثيل الكتلة للنبلاء «آخ – آمون – رع» و»بادي – آمون – أوبت»، و»واح – إيب- رع»، والتمثال الجاثى للمدعو «ناخت – حور – حب» وتمثالين للملكين «نفرتيس الأول» و»أكوريس» من الأسرة 29. وأحضر الكونت دى فوربى التماثيل الجميلة للربة «سخمت» الممثلة فى هيئة أنثى لها رأس لبوءة. وأهدى ابن تاجر الآثار بيير بول تدنا – دوفن التابوت الحجرى الأول لـ»أيونا» إلى لويس الثامن عشر.
وحتى قبل انشاء الجناح المصرى فى اللوفر، كان شامبليون يحاول كسب الرأى العام لصالحه من أجل الاعتراف الكامل بالفن المصرى القديم. فحاول قدر استطاعته أن يحضر روائع هذا الفن إلى باريس كى يقنع المسؤولين الفرنسيين بجمال وعظمة الحضارة المصرية القديمة، التى هى – فى رأيه – أعظم حضارات الدنيا قاطبة. وفى العام 1824، فوض المتحف شامبليون شراء مجموعة «دوران» التي بلغ عددها حوالى 2149 قطعة أثرية، لتصبح بحق أولى مجموعات الآثار المصرية الضخمة التى تدخل اللوفر، ووصفها أمين الآثار المسؤول عن تقييمها الكونت كلار قائلاً: «يجعل تنوع وروعة هذه الآثار – والتى تشكل بمفردها معرضاً جميلاً، يظهر كل شىء يتعلق بمصر – منها مجموعة صالحة للفن والتعلم، وليست أقل أهمية من تلك التماثيل الضخمة التي تملأ اللوفر، فهي عن ذلك البلد المدهش المتفرد مصر». فعلاوة على حوالى 1225 قطعة من التمائم والفنون الصغرى والمومياوات والأوانى والحلى، اشتملت المجموعة على العديد من التوابيت المتميزة والمعروفة بـ»توابيت دوران» ولوحات «سنوسرت» و»أوزير – رع» والتمثال النادر لـ»مرى آمون» والتماثيل الصغيرة لـ «آمون – إم – أوبت» و»تامروت».
وصدّق شارل العاشر على أمر شراء هذه المجموعة فى الرابع عشر من ديسمبر 1824، وكانت لحظة فارقة فى تاريخ الجناح المصرى فى اللوفر. ونظراً لضخامة المجموعة وتميزها، اقترح التقرير الأولى المرفوع إلى السلطات الفرنسية إنشاء جناح خاص للآثار المصرية فى اللوفر، على أن يُطلق عليه اسم «متحف شارل العاشر».
وعندما أقدم القنصل الفرنسى العام فى مصر وجامح الآثار الشره، براناردين دروفتى على بيع مجموعته الخاصة الهائلة، والتى جمعها عبر سنوات عمله الطويلة فى مصر، رفضت فرنسا شراءها؛ نظراً لمغالاته فى ثمنها. وعلى الفور، اشتراها ملك سردينيا شارلس فليكس وعرضها فى متحف «كورين» فى إيطاليا.
وندم شامبليون أشد الندم على ضياع هذه المجمعة من أيدى اللوفر.
وعبر بحثه الدؤوب عن مجموعات أخرى، اكتشف شامبليون وجود مجموعة ضخمة فى ليفورنو فى إيطاليا، كوّنها أكبر لصوص الآثار المصرية في العصر الحديث، قنصل بريطانيا العام فى مصر هنرى سالت فى الفترة من 1819 – 1824. وكان سالت أعظم ناهبى الآثار المصرية، فنهب معظم جبانات الأقصر ومعابد الدلتا، فطلبها المتحف البريطانى لما بها من مجموعة من التماثيل الضخمة والنقوش الجميلة فى العام 1818. فشحذ شامبليون فصاحته واستخدم ملكاته الخاصة للتأثير على شارل العاشر وحثه على شرائها، حتى يفوت فرصة الانتفاع بها على المتحف البريطانى. فكتب إلى الدوق دى بلاكا الذى دافع بدوره عن شامبليون وقضيته العادلة، مستغلاً صداقته للملك ومطالباً إياه بالآتى: «يجب علينا أن نحصل على معظم المجموعات الكاملة والآثار الكبيرة؛ اذ تستدعى متطلبات دولتنا دولة العلم أن ننشىء متحفاً حقيقياً للآثار المصرية شاملاً كل المدارس والأساليب والأحجام، وعلى فهذا، فإن مجموعة ليفورنو كاملة، وعما أعرفه عنها، أنها فرصة حقيقية لن تُعوض كى تكوّن فرنسا متحفاً مصرياً فى اللوفر».
ولفت الأمر الانتباه، وأثار اهتمام الجميع، بمن فيهم شارل العاشر نفسه الذى أصدر مرسوماً ملكياً بالشراء على الفور فى 23 فبراير 1826، وكوفئ شامبليون على جهوده بتعيينه أميناً عاماً للجناح المصرى الجديد فى اللوفر فى الخامس عشر من شهر مايو من العام نفسه.
وبمراجعة قوائم اللوفر المعاصرة، فإن مجموعة «سالت» من الضخامة بحيث اشتملت على 4040 رقم دخول، وكانت من الروعة والتنوع بشكل تصعب معه المفاضلة بينها. ومن أبرز محتوياتها، تمثال أبو الهول الضخم من تانيس فى شرق الدلتا المصرية، والذي يُعد من أبرز معالم الجناح المصرى فى اللوفر، وحوليات الملك تحتمس الثالث، وتمثال سوبك حوتب الرابع، وتمثال أمنحتب الرابع/أخناتون، والأشكال المتنوعة لعلاقة عنخ (الحياة) الهيروغليفية، والتصوير الساحر للسيدة ناى. والطقوس الجنائزية المصورة بدقة على تابوت الملك رمسيس الثالث من الجرانيت الوردى، والآثار الخارجة من المقابر الأخرى، والعديد من مناظر الحياة اليومية المصورة على أدق الآثار وأصغرها حجماً، ولوحات مقبرة نسو الرائعة. وتمثل المجموعة، فى عمومها، لوحة بانورامية شديدة التفاصيل لفنون وخصائص الحضارة المصرية القديمة. ويبرر تنوعها وضخامتها اللافتين حماسة شامبليون الزائدة لاقتناصها من بين أنياب الإنجليز.
وفى العام 1827، دخلت مجموعة القنصل دروفتى الثانية المهمة اللوفر، وأهدى شارل العاشر الناووس الجرانيتي الضخم للملك أحمس الثانى (أمازيس) وباع له التابوت البازلت الضخم الآخر. وكان دروفتى تبع نابليون فى حملته الشهيرة على مصر، وأصبح قنصلاً عاماً لفرنسا فى مصر فى عام 1814، ومرة ثانية فى الفترة 1820 – 1829. وكان جامعاً نهماً للآثار المصرية، واستخدم فى ذلك الوسائل كافة، ومن بينها وسائل الحفر الحديثة، أكثر من معاصريه لصوص الآثار الآخرين، للتنقيب ونبش الآثار. وكان مساعده ومستشاره الرئيسي المثّال جان-جاك ريفو، الذى ساعدت موهبته الفنية وخبرته بالفنون دروفتى فى كثير من قراراته. ورفض لويس الثامن عشر مجموعته الأولى، واشترى فلك البروج (زودياك) من سقف معبد دندرة فى جنوب مصر بثمن باهظ على الفور. وبوصول هذا الأثر الفريد باريس، سار فى موكب هائل، كموكب الغزاة المنتصرين وصار حديث المجتمع الأوروبى عموماً والباريسى على وجه الخصوص.
وازدادت سعادة شامبليون عند تلقيه خبر الشروع فى بيع مجموعة دروفتى الثانية العام 1827. فزلزل الأرض وهز السماء، ليحصل عليها الجناح المصرى بأى شكل وبأى ثمن. وفى أغسطس 1827، أهدى القنصل الماكر متحف اللوفر هدية مكونة من عدد من مجوهرات الفراعنة الساحرة. كان من بينها الخاتم الأروع المزّين بالخيول الجامحة. ولم تستغرق عملية البيع وقتاً طويلاً؛ اذ تمت فى الحادى عشر من أكتوبر. وفى الرابع والعشرين من الشهر نفسه، تسلم شامبليون الكنوز مشتملة على روائع الذهب والفضة وكأس رمز المعرفة والحكمة المصرى المعبود تحوت، ودخلت البقية الباقية اللوفر فى سبتمبر 1828. واشتملت مجموعة الذهب على تماثيل رمسيس الثانى، وسوبك حوتب الضخمة، ورأس صغير للملك أمتحتب الثالث
والد أخناتون، وأوستراكات (شقفات فخارية) جميلة لوجه أحد الملوك الرعامسة (الأسرتان 19 و20)، وعدد من تماثيل الأفراد الكبيرة الضخمة، وآلاف من لوحات المعبود حورس السحرية. وتوابيت «جد – خونسو – إيوف – عنخ»، وثلاثة توابيت حجرية ضخمة، تشكل فى مجملها بانوراما عامة عن الحياة الاجتماعية فى مصر القديمة.
وفى الفترة من 1828 – 1829، سافر شامبليون الى مصر، وعاد محملاً بكنز ثمين من الآثار المصرية قُدِّر بأكثر من مئة قطعة مدهشة، اشتملت على التابوت البازلتى للكاهن «جدحور»، والنقش الرائع للملك سيتى الأول (والد الملك رمسيس الثانى) والمعبودة حتحور من معبده فى أبيدوس فى صعيد مصر الخالد، والتمثال الأعظم لـكاروماما من الأسرة 25، والمنضدة العاجية الشديدة الجمال للملك بيبى الأول من الأسرة السادسة، وأجزاء من أساسات معبد الدير البحرى للملكة حاتشبسوت فى البر الغربى لمدينة الأقصر.
وفى مارس 1832 مات جان- فرانسوا شامبليون 1790 – 1832 بعد حياة قصيرة تبلغ 42 عاماً حافلة بالعطاء لبلده فرنسا وكانت مليئة بالجمع المتواصل لآثار مصر، تاركاً الجناح المصرى فى اللوفر عامراً بأكثر من تسعة آلاف قطعة أثرية متنوعة، الذى تعرض من بعده للإهمال والتدمير، فعثر على نقش الملك سيتى الأول سالف الذكر مهشماً فى التراب.
وجاء من بعده جان – جوزيف – دوبوا، الذى كان يُقطّع مناظر البرديات الجنائزية ويشرح النقوش البارزة، وكان كسلفه عليماً بأهمية المجموعات المصرية الخاصة لدى القناصل الأجانب فى مصر، فطلب شراء أكبر قدر ممكن من مجموعة القنصل الفرنسى العام فى الإسكندرية جان – فرانسوا ميمو خليفة دروفتى واشتريت بالفعل 158 قطعة أثرية بثمن زهيد، واشتملت على قواعد وتيجان أعمدة معبد أبيدوس الملونة، الأروع فى الحضارة المصرية القديمة. والأعمدة الخارجة من مقبرة «أختا» وتماثيل المدعو «سبا» وزوجه «نسا» من الحجر الجيرى الملون الرائعة.
وأعطى تعيين عالم الآثار المعروف والأستاذ بـ»الكوليج دى فرانس» إمانويل دى روجيه رئيساً للجناح المصرى، دفعة جديدة للجناح. ففى العام 1853، طلب مجموعة كلوت بك المهمة، والتى اشتملت على 2678 قطعة أثرية، وكان أنطونى-باتلمى كلوت يشغل منصب كبير أطباء محمد على باشا، ونجح، بحكم
موقعه، فى تكوين مجموعة ضخمة من الآثار المصرية اشتملت على التوابيت الحجرية والخشبية الكبيرة وحوالى 250 تمثالاً حجرياً ولوحة، ومجموعة كبيرة من البرونز، مع تماثيل رائعة للقطة المقدسة باستت، و26 مومياء للحيوانات المقدسة، والعديد من الآثار الجنائزية والدنيوية. وقد جاءت المقتنيات من أماكن مختلفة، فجاء نقش مر- إيب النادر من الدولة القديمة من منف من قرى الجيزة الحالية، فيما جاءت الأوانى الكانوبية (أوانى حفظ أحشاء المتوفى) الخاصة بالملك إنتف الثانى (من الأسرة الحادية عشرة) والبرديات البطلمية من الأقصر.
وبين الأعوام 1850 – 1870، دخلت اللوفر مجموعات أخرى قادمة من مصر عن طريق الشراء
والهبات. وكان أكثر أصحابها من الديبلوماسيين الأجانب فى مصر والذين كانوا يهدونها، بعد عودتهم، إلى المتحف. ففى العام 1857، دخلت لوحات القنصل السويدى الأرمنى الأصل جيوفانى أنستازى، ومجموعات شافاليه دى بالين فى العام 1859، وأشيل فول فى 1860، والكونت تسيكيفيسكز فى 1862. وفى العام 1863، آثار نائب القنصل الروسى سليمان، وآثار القنصل الفرنسى دلابورت. وفى العام 1867 آثار ألفونس ريافيه. والمجموعة الكاملة لـروسى بك المكونة من 1208 قطعة أثرية فى العام 1868.
وبانتهاء فترة القناصل المزدهرة فى نقل آثار مصر إلى اللوفر والتى كونت اللوفر المصري بكل تأكيد، تغلق فرنسا فصلاً فى مسلسلها الشهير وتفتح آخر. فلم تحتر طويلاً، وابتكرت طريقة جديدة لمواصلة مسيرتها، بتزويد المتاحف الفرنسية بالآثار المصرية، فكانت عملية تقسيم الآثار المستخرجة من المواقع الأثرية أو نقلها كلية أو أهم ما بها.
ففى الفترة من 1852 – 1853 تسلم اللوفر أولى دفعات الآثار المصرية الخارجة من سرابيوم منف (مدافن العجل أبيس المقدس)، كجزء من الإستراتيجية الفرنسية الجديدة لنقل الآثار الناتجة عن الحفائر، وهى وسيلة اتبعت فى إحضار الآثار المصرية إلى اللوفر.
وخصص ملحق القسم المصرى فى اللوفر أوجست مارييت حياته كلها لإرسال الآثار المصرية إلى فرنسا، وحضر إلى مصر موفداً من قبل متحفه لشراء عدد من المخطوطات القبطية، فقام بحفائر غير منظمة فى سقارة مستعيناً بإرشادات الأهالى وبالأموال التى كانت معه، فعثر على السرابيوم، فأخطر متحفه بذلك، فمده على الفور بالمال الوفير لمواصلة عملية نقل الآثار المصرية إلى اللوفر.
وأسس مارييت مصلحة الآثار ومتحف بولاق بضغط من الحكومة الفرنسية على حاكمى مصر سعيد باشا والخديو إسماعيل على التوالى، كذريعة لإبقاء رجلهم فى مصر، حتى يحصلوا على ما يريدون من آثار
ويكفى أن نعرف إن مارييت وحده أرسل إلى فرنسا (مارييت باشا فى ما بعد، والذى اطلق اسمه على أحد أكبر شوارع القاهرة، والمدفون تكريما له فى حديقة المتحف المصرى) حوالى ستة آلاف قطعة أثرية من جبانة سقارة جنوب أهرام الجيزة وحدها، فما بالنا بالمناطق الأخرى، حتى نعلم مدى الخسارة التى ألحقها هذا الرجل بالآثار المصرية والتاريخ المصرى القديم، رغم ما يشيع عن خدماته الجليلة لآثار مصر
فمارييت أخرج من مدافن العجل أبيس المقدس وحدها، ألف لوحة وتماثيل العجل أبيس الأندر فى الحضارة المصرية القديمة كلها، وتماثيل الإله بس رمز المرح والضحك، ومئات من تماثيل الأوشابتى (التماثيل المجيبة)، وعدداً كبيراً من قطع سبقت عهد الملك رمسيس الثانى وابنه الأكبر الأمير خع – إم – واست
خلال عمليات نقل الآثار المستمرة من السرابيوم. واكتشف مارييت عدداً من المقابر من عصر الأهرام. وفى إحداها عثر على تمثال الكاتب المصرى الجالس الشهير، أحد أبرز معالم اللوفر من عصر الأسرة الخامسة، والذى لو وضع فى كفة وآثار اللوفر كلها فى كفة، لرجحت كفته، كما يقر بذلك معظم العلماء، وتزين كل هذه الآثار متحف اللوفر الآن.
وفى الفترة من 1849 – 1894، حدثت زيادة عظيمة فى حجم المجموعة نتيجة للتغيرات الإدارية الكبيرة الناجمة عن ثورة 1848 فحاول مدير اللوفر فيليب-أغسطس جانرو تطبيق برنامج طموح لاعادة تنظيم
المتحف وتزويده بالمقتنيات الجديدة. وبنهاية القرن التاسع عشر تقل عمليات بيع الآثار الكبرى، فتعرض الفرنسيون لمأزق خطير سرعان ما تغلبوا عليه، فما فعله رفيلو بالاعتماد على مجموعات كبيرة من وثائق العصور المتأخرة لتزويد المتحف بها، كان الحل الامثل لتلك المشكلة، وبالرغم من أن هذه الوثائق أقل جاذبية وإثارة للجمهور، فإن هذه النصوص الديموطية والقبطية واليونانية حوّت ثروة كبيرة من المعرفة عن خصائص معينة في الحضارة المصرية.
وبين 1879 – 1896، دخل المتحف عدد كبير من البرديات والأوستراكات والنصوص الخارجة من المومياوات، وتمثل الآن فى مجموعها واحدة من أكبر المجموعات فى هذا المجال فى العالم كله. وعن طريق الشراء من الأفراد دخل اللوفر عدد متميز من الآثار المصرية. ففى العام 1872، تم شراء مجموعة الملك أوسركون الاول الرائعة، من تاجرى العاديات رولن وفواردن بمبلغ باهظ، حوالى خمسة وعشرين ألف فرنك فرنسى. وحصل اللوفر على ثلاث قطع حلى من مبيعات الأمير نابليون، وشملت صدرية الملك أحمس الأول محرر مصر من الهكسوس. وفى العام 1883 دخلت المتحف التماثيل البرونزية الكبيرة من مجموعة بوسنو وتمثال فرس النهر القاشانى الأروع. وفى العام 1895، قام بنديت بأولى رحلات الشراء السنوية إلى مصر، وقتذاك، كان المتحف المصرى بالقاهرة ذو الإدارة الفرنسية، يبيع الآثار المصرية- رغم إنه كان مكلفا بالمحافظة عليها.
وفى هذه الأثناء، قامت مصلحة الآثار، الفرنسية الإدارة أيضاً، بعرض مجموعة كاملة من الآثار لبيعها إلى متاحف العالم الكبرى. وانتشرت محال بيع الأنتيكات فى شوارع القاهرة والتف حولها جامعو الآثار الاوروبيون الذين أتوا من كل حدب وصوب. ونتيجة لهذه الرحلات المستمرة امتلأ اللوفر عن آخره بمجموعة من أروع الروائع. ولكل عصر ما يميزه من الآثار الفريدة، ففى هذه الرحلة حصلوا على سكين جبل العرك ذى المقبض العاجى المنحوت الذى يُعد واحداً من أهم آثار عصر ما قبل وبداية الأسرات المصرية والذى ساهم بشكل كبير فى تأريخ تلك الفترة. وباعت مصلحة الآثار لمتحف اللوفر مصطبة آخت حوتب ذات النقوش الرائعة، وعمود هرم الملك ونيس الجرانيتى الوردى ذا الأمتار الستة، وتمثال أخناتون النصفى الجميل، وأربع مزهريات من القاشانى الأزرق الرائق، ممهورة باسم الملك رمسيس الثانى العظيم، والسيستروم (آلة موسيقية) الفريد الذى يحمل اسم مغنية المعبود آمون المدعوة حنوت-تاوى.
وفى العام 1907، تسلم اللوفر جزءا من مجموعة احتوت أشياء نادرة عدة، مثل فلك البروج بسقف معبد
دندرة السالف الذكر، وحجرة الاسلاف بمعابد الكرنك فى البر الشرقى للأقصر، وأحضرها إلى فرنسا الرسام الفرنسى الشهير إميل بريس دافين الذى أشهر إسلامه وتسمى بـادريس أفندى فى ما بعد. وبعد نقل آثار السرابيوم، كانت الآثار المصرية ترسل بانتظام إلى اللوفر وانتشر النباشون الفرنسيون فى أرض مصر يقلبونها شبراً شبراً، بحثاً عن الآثار المصرية من أقاصى الدلتا شمالاً وإلى الجندل الأول جنوبا. فمن تانيس، احضروا عمودين من الجرانيت الوردى وأساسات معابدها، وكانت هليوبوليس عين شمس والمطربة الحاليتان شرق القاهرة أولى المواقع التى أمدت اللوفر بالكثير من الآثار، وبالرغم من قلة ما أخرجته، فإنه كان عظيم الأهمية بشكل لم يسبق له مثيل، وشمل، فيما شمل، النقش الصاوى (الأسرة 26) النادر للموضوع المصرى الأثير والمعروف بـالصيد فى الأحراش كطقس للقضاء على الشر فى العالم الآخر. ومن أبو رواش شمال أهرام الجيزة، جاء التمثال النصفى الآسر لابن الملك خوفو، الملك جدفرع وآثار لأمراء آخرين من العائلة المالكة. علاوة على ما اخرجه الموقع من آثار كثيرة ترجع الى عصر ما قبل وبداية الأسرات المصرية، وهى من مفاخر اللوفر وشملت الأوانى الحجرية وصلايات السشت (الواح صحن الكحل)، والأسلحة النحاسية، والأسود العاجية الصغيرة، وقطع الألعاب المختلفة.
ومن بين الآثار المكتشفة فى تنيس شمال الدلتا المصرية، التوابيت ذات رؤوس الصقور المصغرة. وأخرجت مقابر زواية الأموات ودارا فى مصر الوسطى تماثيل الخدم المؤدين أعمالهم المكلفين بها، والحلى، والآثار النذرية من أواخر عصر الدولة القديمة.
واستخرجوا نسيج القباطى ذا الشهرة العالمية من جبانة أنتنوى (الشيخ عبادة) فى المنيا. وتمثل الآن مجموعة اللوفر واحدة من أكبر مجموعاته فى العالم، ومن بينها، شال سابين المزين برسومات أسطورية منفذة بألوان مخلوطة. واكتشفت أيضاً آثار كثيرة من أدوات الحياة اليومية مثل صناديق أقلام الرسم، وأدوات النسيج، والفخار ذى الرسومات الحيوانية. فيما وجدت الأعتاب الخشبية والأبواب والتيجان واللوحات الجدارية مدفونة تحت الرمال فى باويط فى أسيوط وسط صعيد مصر؛ مما دعا أمناء المتحف إلى تخصيص قاعة فى المتحف لتكوين كنيسة قبطية. ومن أروع ما عثر عليه من الآثار، تلك الحشوة الخشبية الملونة المدهشة والتى تجمع بين السيد المسيح عليه السلام، ورئيس الدير الأنبا مينا والأفاريز المنحوتة بالتصميمات النباتية والطيور، والأعتاب الخشبية المصور عليها الملكان ميكائيل وجبريل. وتعكس كل هذه الآثار مدى أهمية هذا الدير الذى عمر بين القرنين السادس والثامن الميلاديين.
وأخرجت أسيوط (المكان الاستراتيجى فى عصر الدولة الوسطى) الأثاث الجنائزى الخاص برئيس القضاة نخت مع تمثاله المعبر من خشب الأكاشيا (السنط)، والتوابيت الحجرية، والتماثيل الصغيرة لحملة القرابين، والنماذج الملونة للمراكب والمخازن. ومن جبانة أبيدوس الملكية، جاء العمل الأعظم، لوحة الملك الثعبان، وأثاث الأسرتين الأولى والثانية النادر، ولوحات الأفراد، والأوانى المنقوشة، والآثار المعدنية والعاجية.
واكتشف فى الطود والميدامود (قرب الأقصر) كنز من الفضة واللازورد والتماثيل الملكية، ونقوش من الحجر الجيري ووجوه الملكين أمنمحات وسنوسرت وهى من روائع فن النحت من عصر الدولة الوسطى. وفى قرية دير المدنية فى البر الغربى لمدينة الأقصر، حيث عاش ودفن العمال والفنانون المهرة الذين قاموا بتشييد وتزيين مقابر وادي الملوك، عصر الفرنسيون على كنز هائل من المعلومات عن كثير من مظاهر الحياة والموت فى عصر الدولة الحديثة. فاكتشفت آلاف الأشياء فى مقابر هؤلاء العمال والفنانين فى انقاض هذه القرية، والتى تحكى عنهم كل شىء، الطعام الذى كانوا يأكلونه مثل الفواكة، والخضراوات، والدجاج، وأثاثهم، وأدواتهم، وآلاتهم الموسيقية، وابتهالاتهم للآلهة، وأعمال التلاميذ المدرسية، والمشاجرات بين الزملاء، وأحوال المنزل، وشؤون الزوجات، وسجلت كل هذه الأشياء فى الوثائق المكتوبة الخاصة بذلك المجتمع. ووجدت التماثيل والأعتاب والأثاث الجنائزى فى منطقة مقبرة القائد إزى فى إدفو شمال أسوان فى صعيد مصر، والتى تجسد بوضوح تطور الجبانة فى عصرى الدولتين القديمة والوسطى.
وأخرجت جزيرة إلفنتين قرب أسوان وثائق ضرورية توضح كيفية عبادة آلهة الجندل الأول، وتشمل مومياوات الكباش (الحيوان المقدس للاله خنوم رب الخلق عند المصرى القديم)، والقرابين المنذورة للإلهة عنقت، والكتل الحجرية الضخمة المخصصة لمعبد الإلهة ساتت زوجتا الإله خنوم اللتين تكونان معه ثالوث جزيرة إلفنتين.
وفى العام 1972، حصلت فرنسا على العمود الأوزيرى (نسبة إلى أوزيريس) الضخم والخاص بالملك أخناتون. والمتحف ملىء بتماثيل المرأة رمز الجمال الأغريقية فينوس القادمة من مصر، وكذلك الموازييك المصرى وبورتريهات الفيوم من الحقبة الرومانية ومنحوتات دافنى والعذراء أنونسيات. والمخازن مليئة بالملابس وتماثيل التراكوتا (الطمى المحروق) المصرية الصميمة.
وبالنظر إلى النشاط الفرنسى فى الآثار المصرية، نجد أنه بدأ منذ فترة مبكرة جداً، ربما تكون أولى محطاتها الحملة الفرنسية على مصر، وأن الآثار المصرية فى اللوفر جاءت من كل بقاع مصر من أدنى الشمال إلى أقصى الجنوب، ومن أقدم العصور المصرية منذ عصور ما قبل التاريخ مروراً بالعصر العتيق وعصور الدول القديمة والوسطى والحديثة بما تخللها من عصور اضطراب وإلى نهاية العصور الفرعونية ثم العروج على آثار مصر البطلمية والرومانية والقبطية وإلى الفتح العربى. فهى رحلة زمانية تبدأ على وجه التقريب منذ سبعة آلاف عام قبل الميلاد وتمتد إلى سبعمائة ميلادية، حوالى 77 قرناً هى عمر التجربة المصرية منذ عصور ما قبل التاريخ وإلى الفتح العربى. إذن هى رحلة زمانية مكانية، خاضها الفرنسيون فى سبيل تكوين متحف اللوفر. وتنوعت مصادر تمويلهم بالآثار من فترة القناصل المزدهرة التى كانت مصر فيها مسرحاً مستباحاً لأخذ الآثار على أيدى القناصل الأجانب بها، فى ظل غيبة الوعى والإهمال اللذين كانت تتعامل بهما الحكومة المصرية مع الآثار التى لم تكن تدرى عنها شيئاً وترضى خاطر الأجانب بأية طريقة، إلى الاعتماد على الحفر المباشر فى الأرض المصرية، ثم الشراء من تجار العاديات، وتقبل الإهداءات. واللافت للنظر فى تعامل الفرنسيين مع الآثار المصرية أنهم كانوا لا يأخذون إلا أروع الروائع وأندر النوادر، فهم يقدرون الروعة والندرة فى كل الآثار التى بجلبونها إلى اللوفر، ليصنعوا تاريخاً لهم من خلال سحر مصر القديمة الذى لا يقاوم.