بقلم: تيماء الجيوش
نظرت الي وهي تتسائل لماذا؟ انت لست امراةً معنفة بالمطلق، لماذا تكتبين عن العنف ضد المرأة إذاً؟
انا اليوم أدين بشرحٍ وافٍ للأصدقاء و القراء و كل من هو معني لماذا اكتب عن المرأة و تعنيفها و حقوقها ؟ و هل علينا عندما نحمل همّ قضيةً ما لا بد ان نكون ضحايا أولاً لها كي نُعبّر عنها و ندافع عنها؟ الجواب أولاً لا و ليس بالضرورة. اسميحكم بهذه المساحة الشخصية المختصرة و لتعدوها شهادة امرأة ، محامية و باحثة نسوية أشارككم بها أصدقاء اعزاء و قراء. هذا حقيقي، انا لم أعاني كإمرأة من العنف بالمعنى الاجتماعي الاقتصادي أو الثقافي حصراً. أنا اتيت من عائلة رغيدة مادياً ، ( يحلو للبعض بان يقول عنها برجوازية و لااعتراض لدي فانا احترم الرأي الآخر) ذات مستوى ثقافي و فكري عالٍ. أقول هذا تواضعاً و من باب الإقرار بالحقيقة. والاكثر اهميةً من ذلك ، أن عائلتي كانت نسويةً جداً، كانت ولا زالت عائلة تؤمن بالعلمانية السياسية و المساواة . أبي هو من كان يدفع أمي الى الأمام و يدافع عنها و كانت هي وسامهُ الذي يضعه على صدره، ( أستعير هذا التعبير من مقال كنده جيوش)حياتهما كانت شراكة متساوية مناصفة ، يحترم رايها و فكرها وكل ما تعبر عنه و تقف بثباتٍ ورائه ، و بالمقابل كانت أمي التي لم تقبل يوماً باقل من المساواة المطلقة لها و لغيرها من النساء. كانت المرأة النسوية الحقة الاولى في حياتي ، التي ترى ان الاعتراف بحقوقها وممارستها قولاً و عملاً هو اضعف الإيمان . كانت قوتها تكمن في كونها امرأة تعيش في مجتمعٍ له تقاليده و عاداته و ثقافته و بشكلٍ استثنائي احتفى مجتمعها بها وعدّها «أخت الرجال» . قد يعترض البعض على هذا التعبير ولنا عودةً له في مساحاتٍ اخرى قادمة . لكن هذا كان واقع الحال في تلك الزاوية الشمالية الشرقية في سوريا. أتمّ تأثير هذه الحلقة في حياتي شقيقي الأكبر الذي حرص ان تكون هدية نجاحي كطالبة ثلاثون كتاباً عن المرأة. لعل أعمقها كانت كتب بدر الدين السباعي و سيمون دي بوفوار.
لم يكن عالمي في حقل المحاماة سوى المرتكز الذي جعلني اكثر التزاماً بالمساواة وما تعانيه المرأة العربية من عنفٍ قانوني على وجه الدقة. ان أكون امرأةً حرة مستقلة سياسياً و اجتماعياً و اقتصادياً ، تؤمن بشدة بحقوقها كجزءٍ من حقوق الانسان ، هو سببٌ هام لدي لان ادافع عن حقوق الأخريات ، السؤال الذي لم يبارحني ، لما لا يكون لكل النساء ذات الظروف و ذات الاحترام المتأصل للمساواة؟ ما الذي يمنع ان تكون كل عائلة عائلةً نسوية في المقام الاول؟
يقابل هذا التساؤل نساء توليت ملفاتهن امام المحاكم الشرعية و لعل بعض تفاصيل من هذه الدعاوى سأجلبها هنا ، قد تُبين جزءاً من العنف القانوني و الاجتماعي الذي تعيشه المرأة يومياً و الذي لا يجد فيه المجتمع أية غضاضة و لا يُحرك التشريع بخصوصه ساكناً.
الاولى: كانت من امرأةٍ وجب عليها ان تقبل بزواجٍ
مُدّبر عائلياً ، لم تشفع شهادتها الجامعية بأن تختار او تفرض رأيها في زواجها بل كان عليها كأنثى واجب الطاعة و الحفاظ على ماء وجه والدها الذي وعد ووفى بوعده و هكذا كان . هي المرأة التي يقع على عاتقها شرف وقيم ووفاء وعود عائلةٍ بأكملها . لاحقاً و عند وفاة زوجها باتت المعيل الأساسي لأطفالها وكم كان سهلاً ان تجد حقوق ميراثها تُقضم من قبل عائلة زوجها و الصمت المُطبق يلف الجميع من باب التضامن و المساندة و مقام العائلة المجتمعي التي حاشا لنسائها ان يطرقن باب المحاكم و لو كان لرد الظلم و احقاق الحق فكل المعايير تصبح استثنائية و مشبعةً بالغرابة عند وصولها لحقوق المرأة. و قيل لها بعدسنين من الالم ان تذهب للمحاكم و ترضخ لاحكام القانون فهو الفصل . كم كان صادماً لها ان تجد ان بنود القانون لا تدعمها بل تدفع بها الى الصفوف الخلفية فلا ولاية لها على أطفالها ، ولا مالٍ سيكون من الهين الحصول عليه . و لما الحقوق المادية ما دامت النساء لا يعرفن كيف يحافظن على المال بل الرجال هم من يفعل فهم القوامون أليس كذلك؟ و هكذا كان وقفت امام محراب تمييزٍ ذكوري يرعاه القانون و يحافظ عليه بضراوة.
الثانية : كانت مع صبية تعشق الحياة لم تنعم بالكثير من العلم و رغماً عن ذلك طرقت باب العمل بشهادةٍ علمية متواضعة لتحقق ذاتها . كان ذهابها للعمل يومياً هو رئتها التي تتنفس بها. لم تعلم انها ستكون موضوع رهانٍ و انتقامٍ من مرضى اجتماعيين بامتياز. و كانت الأداة عقد زواج . تقدم للزواج منها كي ينتقم من عائلتها لخلافٍ مادي كبير سابق معهم، تقدم بالمصالحة و عززها بطلب المصاهرة، و كي تذل خصومك في الشرق العربي السعيد عليك ان تستهدف النساء . ألقى عليها يمين الطلاق بعد سبعة و عشرين يوماً بالتمام و الكمال من زواجهما ، امرأة تعود الى دار والدها مطلقة لا حول لها ولا قوة و عليها في كل حركاتها و سكناتها ان تثبت انها الراعية الأمينة لسمعة العائلة، لم ينظر احدهم الى الظلم الذي وقع عليها كضحية واداة للانتقام ، بل كان التساؤل ماذا فعلت ؟ والخطأ لا بد ان يكون من جانبها . لم يلق احدهم باللوم على طليقها الذي اتخذ من عقد الزواج لعباً و هزواً و ليس عليه من ضرر فهو محميٌ بالقانون و الشرع حلل له هذا و ذاك . أضف على ذلك لا مهر بالكامل سيدفع و النفقة عبارة عن مبلغ بسيط مُخجل ( بالسوري العتيق نقول كم ليرة) لا يوازي الحالة المادية الممتازة للزوج و الزوجة ليس لها سوى الصمت ، حتى لو تقدمت و ادعت بالطلاق التعسفي و حتى ولو تم بناء قرار المحكمة عليه ، فهو سيأخذ سنيناً من العمر. أذكر انني في جلسة دعواها و امام القاضي كنت حادةً جداً مع محامي طليقها الذي وقف منتصباً وبكل فخر الى جانب الحقوق القانونية و الشرعية لموكله و الذي لم يبذل جهداً كبيراً ، و لما سيبذل اَي جهد و هو كله ثقة من ان فقرات القانون جاءت لتطبق افواه النساء و تُفرغ النصوص من محتواها .بنهاية الجلسة كان ضيفي الباحث الذي رافقني الى المحكمة ينظر و قد فغر فاهه قائلاً :» أي كارثةً هذا الذي يُدعى قانون لديكم و تظن المرأة أن لها حقوقاً مصانةً به؟». و أظن انه طوال الطريق كان يدفع بالماء الى ريقه كي يستوعب تلك اللحظة السريالية أو الصدمة الثقافية التي مرت أمامه و هو القادم من بلدٍ عريق فيه التشريع يحترم معايير حقوق الانسان و لا سيما المرأة و يعدها معياراً لتقدمه الحضاري و المجتمعي.
الثالثة: اذكر ان هذه المرأة صراخها ملأ جدران المحكمة ، هي المرأة الصبية التي تبدأ ثلاثينات عمرها بصراخٍ و عويل و حبيسة زواجٍ لا تريده و طلاق لم تحصل عليه من عشر سنين. عليها ان تتقدم و تُبرز البينة تلو البينة و الدليل بعد الدليل كي تنال الطلاق الذي لا زالت المحكمة تنظر فيه و ربما تقره او لا . المها يأتي ان العمر يرحل و هي لا تستطيع ان تعيش عمرها ، لا تستطيع ان تنهي زواجاً و ربما تبدأ حياة جديدة مع زوج اخر . بالجهة المقابلة زوجها أبقاها على ذمته و تزوج و انجب من اخرى ، لا يقبل ان يطلقها بل عليها ان تقبل بشروطه، عليها ان تقبل بتهديده، ستصرفين العمر باكمله في اروقة المحاكم ، عليها ان تقبل ما يقرره لحياتها هي ومستقبلها، اَي احتباسٍ هذا؟ اَي ارتهانٍ هذا؟ ، اَي عدلٍ تقبل به المجتمعات على هذه الشاكلة من التمييز؟
الاخيرة : هو سنوات عجاف من حربٍ أهلية كان اول ضحاياها المراة و الاطفال ، المرأة السلعة أُضيف اليها الطفلة السلعة ، بات زواج الاطفال رائجاً ، بات مصدراً للاستقرار المادي للعائلة و الحجة هي الحفاظ على الطفلات من التشرد و الضياع بعقود زواجٍ تصونهن. إن كان القصد هو الصون ألم يكن من الأجدى صون هاتيك الطفلات بالتعليم و المزيد من المعرفة؟ اقف عند الحد و اكتفي به . مع التاكيد دوماً ان العنف ليس وليد اللحظة و لم يكن يوماً مُقتصراً على هذا المجتمع دون ذاك . لكنه بالتاكيد يشتد عمقاً و يتنوع بصوره على اختلاف المجتمعات و تطورها.
الالتزام بقضية لا يستوجب ان تكوني ضحية. الالتزام بقضية يعني ان نفهم مقدماتها، اسبابها ، نتائجها ، ابعادها ، كيفية معالجتها و إنهائها .
ما ذكرته أعلاه من ملفات النساء هو غيضٌ من فيض. هو صفحات من حياة نساء ينتظرن من القانون و المجتمع عدلاً و مساواة ترد بعضاً من كرامةٍ مُستلبة . لتكن العقود القادمة هي عقود المساواة و النسوية في عالمنا العربي. الى الماء يلجأُ من يغُصّ بلقمةٍ.. الى من يلجأُ من يغُصّ بالماءِ.
اسبوع سعيد لكم جميعاً.