الرسالة/ نادين باخص:
بوفاة أبيها اكتشفت علياء ابراهيم أنّ الكتابة اعتماداً على «ذاكرة من ورق تتأبّط ذاكرة سمعيّة أورثنيها شغف استراق السمع لأحاديث الكبار» هي قدرها. ورغم أنها ليست أديبة ولا شاعرة، إلا أنها أرادت نقل «تجربة إنسانية مثيرة»، بلغة رشيقة ومجاز محبّب تستهطله لترطّب به جفاف التاريخ الذي شغل أجزاءً كثيرة من كتابها.
إلا أن كمّ الأحداث التاريخية التي أفردت لها أجزاء مستقلة _وإن مختصرة_ دون أن يكون لها صلة مباشرة بما تورده من سيرة أسرتها كان عبئاً على السيرة ومتعة القراءة، وكان من الأفضل أن تكتفي بإيراد الوقائع التاريخية المتعالقة مع أحداث تريد سردها ضمن سيرة عائلتها.
تبدأ علياء سيرتها من جدّتها لأمّها ناعمة من عام 1914، حيث فقدت والديها وهي فتاة صغيرة، وأخبروها أنّها بوصفها يتيمة قد حازت من الله صكّ دخول الجنّة لا محالة، ولكنّها بالمقابل ذاقت المرّ من ظلم عمّها وعائلته الذين سطوا على منزل أبيها وحرموها من رزقها، لينتهي الأمر بأن يسافر بها عمّها من المشجب ويبيعها في عدن لأرمل يُدعى علي العولقي الذي فرّ من قبيلته في صغره خوفاً من ثأر قديم، وانتمى إلى قبيلة حُبيش. ومن حسن حظّها أنّه كان رجلاً طيّباً، عاملها كابنة، وعلّمها الكثير من الأمور في الحياة بما في ذلك رعاية الماشية، وفي نيته تزويجها لابنه أحمد حين تصبح في سنّ مناسبة، وفعلاً تزوج أحمد بناعمة وأنجب منها أولاداً من بينهم أميرة أم علياء، التي تزوجت من إبراهيم. وبالإمكان الاعتبار أنّ السيرة تقوم على هذه الشخصيات بشكل أساس (ناعمة، أحمد، أميرة، إبراهيم)، لتتفرّع عنها شخصيات إضافية تمرّ الكاتبة على ذكرها بعجالة حين تستدعي السيرة ذلك مثل شخصيات أخوالها، وغيرهم.
لا تكفّ علياء عن محاولات سحب الكلام من فم كلّ مَن يمكن أن يحمل قصصاً عن ماضي اليمن، وتفيد من كلّ معلومة في تلك الحكايات إلى جانب الكتب التي قرأتها عن تاريخ اليمن، مقارنة ما قرأته فيها ببعض ما سمعته من أمها وبعض الأشخاص الذين سمعت منهم، ومن بينهم أبيها إبراهيم الذي كان متحفّظاً في سرده للماضي، ومقتضباً ففي رأيه الأفضل للماضي أن يطوى لا أن يُروى. ولطالما قال لها: «أهم من هويتك الخارجية هوية قلبك الداخلية». أما علياء فاستطاعت الإيمان بتلك الفكرة بما يكفي لتعيش السلام الدّاخلي والتأقلم مع كونها «إماراتية الهوى، يمنيّة الجذور».
تجيد علياء إبراهيم تطويع لغتها لتضيء عوالم اليمن، فتلتقط تفاصيل جمالية وتسبغ عليها بريقاً جمالياً من خلال انتزاعها من البديهي وصهرها في الأدبي: «في اليمن، بنظرة واحدة على خصر محدّثك يمكن أن تعرف خلفيّته. التمنطق بالجنبيّة أمر ثابت في الزي اليمني لكن كيفيته ونوّعيته هي التي تحدّد وضعه في المجتمع». وتورد مفردات كثيرة من المعجم اليمني، ولا تبخل على القارئ بالإجابات الشافية والمختصرة في آن فيما يتعلّق بالكلمات التي تحتاج إلى توضيح، وتعيد كلّ كلمة إلى أصلها مشيرة إلى أنّ «الكثير من الكلمات المتداولة في عدن محوّرة عن لغة أُخرى». وكثيراً ما تسقط الضوء على كلمات وأمثال متعلقة باليهود الذين كانوا جزءاً من التركيبة السكانية في اليمن قبل عام 1948.
لا تخلو سيرة علياء من قصص فيها من الغرائبية ما يؤكد لها أكثر أنّ سيرتها فيها من الأحداث ما يحضّ على أن تكتبها، مثل قصّة ابن خالها عبدالله الذي تزامنت ولادته بوصول قطّة إلى منزلهم، فلازمت الطفل على الرغم من محاولات أمه المستمرة في طردها، إلى أن أتى يوم خرجت فيه القطة من المنزل، وحين عادت لم تفتح لها أم الصبي الباب رغم موائها المُلحّ، وفي اليوم نفسه وجدوا الطفل ميتاً في فراشه وقد ازرقّ فخذه وتورّم، ليعثروا بعد أيّام على ثعبان في البيت.
ومن تلك الشخصيات والأحداث الخالة منّو التي مُسّت بفعل عطر حماتها التي كانت تقود الزار، وكانت النتيجة أنها قضت حياتها منفصلة عن واقعها بعد أزمات عصبية ونفسية شديدة تلت استخدامها العطر. وغيرها من الشخصيات التي تذكّر بما سُمّي بالواقعية السحرية في أدب ماركيز، وتحديداً في رواية مئة عام من العزلة، حيث إنّ النقّاد حينها أطلقوا هذه التسمية على محاولة ماركيز خرق قوانين الطبيعة عبر كتابته لشخصياته الروائية، إلا إنّ الأمر هنا يختلف، إذ إن علياء إبراهيم تكتب عن شخصيات واقعية عاشت شيئاً من تلك الغرائبية فعلاً.
ما يميز هذه السيرة جرأة الكاتبة في سرد وقائع أسرتها، وصدقها وعدم محاولتها التدخل لتجميل ما يمكن أن يكون سيئاً قد يتلافى الكثيرون سرده. واللافت أنها عرضته بطريقة غير منفّرة، فالقارئ يشعر ضمنياً أنه متعاطف مع هذه السيرة لصدقها بالدرجة الأولى. تقول: «لست أكتب الماضي لأسيء لشخوصه أو لأنتقد سيرورته، فالماضي منتنه، أنا أقرأ الماضي حتى لا أعيشه مجدداً، وأكتبه حتى لا يكرره الناس… إن لكل حدث سلبي رسالة فإن فهمناها لن يظهر التاريخ القديم متنكراً مرة أخرى في عباءة جديدة».