إدواردو أوغيس غاليانو كاتب وصحافي من الأوروغواي، ولد في 3 سبتمبر عام 1940، وتوفي في العام 2015. ذو أصول متعددة تمتزج بين الإسبانية والإيطالية والبريطانية، باشر العمل الصحفي في سن مبكرة حيث نشر أول مقالاته في الجريدة الأسبوعية EL SOL، «الشمس» موقعة بـ Guius. نُفي إلى الأرجنتين عام 1973 وأسس فيها جريدة الأزمة LA CRISES، تحسس نبض أمريكا اللاتينية والعالم عبر رحلة إبداعه وعطائه ككاتب وصحافي ورسام، وترجمت أعماله الأدبية إلى أكثر من عشرين لغة، وكان أشهرها «الشرايين المفتوحة لأمريكا اللاتينية» ويمثل هذا العمل تحليلاً دقيقاً لما تعرضت له أمريكا الجنوبية من استغلال لثرواتها منذ عهد كريستوفال كولون حتى أيامنا هذه، وقد طبع هذا العمل ثلاثين طبعة منذ إصداره في عام 1973، وتعرض للمنع في عدة دول منها الأرجنتين والأورغواي وتشيلي. حقق الكتاب شهرة إضافية بعدما قام الرئيس الفنزويلي هيوغو تشافيز بإهدائه إلى الرئيس الأمريكي باراك أوباما في العام 2009. يتحدث إدواردو غاليانو في هذه المقابلة مع الصحافي إيريك نيبوموسينو عن أمريكا اللاتينية وعن الحياة والوداع والخوف وعن كل ما يموج داخله إن كان من هواجس أو من طمأنينة يستشفها المرء من خلال شخصيته الفريدة وكلماته التي تأخذنا إلى عالمه الخاص. أجريت هذه المقابلة في العام 2011.
مقتطف من كتاب «معانقات» تحت عنوان «العالم» يقرؤه غاليانو في بداية المقابلة…
«تمكن رجل من قرية نيغوى الواقعة على الساحل الكولومبي من الصعود إلى السماء، وعند عودته تحدث عن تأمله للحياة البشرية من الأعلى فوجد أننا جميعاً نشكل بحراً من لهب، العالم هو كومة من البشر وبحر من اللهب. قال، وليس هنالك ألسنة لهب متشابهة، فكل شخص يشع بضوئه الخاص الذي يميزه عن الآخرين، ثمة ألسنة لهب كبيرة وأخرى صغيرة، وهي موجودة بجميع الألوان، لبعض البشر ألسنة لهب هادئة لا تتأجج مع هبوب الريح، وآخرون لهم لهب مجنون يملؤون الهواء بالشرار المتطاير. هنالك ألسنة لهب غبية لا تضيء ولا تحرق. بينما لآخرين ألسنة لهب حارقة يلذعون الحياة برغبة عارمة فلا يمكن النظر إليهم دون أن ترف أعيننا، ومن يقترب منهم يشتعل».
أود لو تحدثني عن أمريكا اللاتينية، كيف تراها اليوم؟ وكيف ترى هذا العالم الذي نعيش فيه؟
يبدو هذا السؤال معقداً بعض الشيء. تريد إجابة عن أمريكا اللاتينية والعالم أيضاً، لحسن الحظ أنك لم تسألني عن المريخ والقمر! حسنا أعتقد أن بلادنا تعيش حقبة مليئة بالإبداع والجمال يصعب فهمها، خاصة إذا ما نظرنا إليها نظرة خارجية وفوقية، فإن نحن أردنا فهم حقيقة الأمور واستشعار نبضها علينا النظر إليها من الداخل، أي من العمق ومن الأسفل. أما إذا ما نظرنا إليها بتلك الفوقية التي يتصف بها إعلام الديمقراطية في الولايات المتحدة الأمريكية أو في أوروبا مثلاً فلن نتمكن من فهم شيء على الإطلاق. وذلك لسبب وجيه وهو أن بلادنا هي أكثر بلاد العالم تفرداً، بل هي في الواقع وطن التعدد العرقي والإنساني، ومن ينظر لهذا التمازج العظيم نظرة خارجية سيبدو له ذلك عيباً كبيراً ومشكلة كبرى، فتلك الدول تمتلك نظرتها الخاصة عن الديمقراطية، وإن أنت لم تدخل معهم في تلك المعمعة وتشاركهم نظرتهم الفوقية تلك إذاً فأنت لا تؤمن بالديمقراطية. وهذا خطأ فادح، فكون بلادنا تعج بالتناقضات والاختلاف والتنوع العرقي المدهش الذي تتمازج فيه الأطياف البشرية بألوانها كافة هو أكبر دليل على أن بلادنا هي عرش للديمقراطية.
حسناً، عن العالم سأذكر مقولة تعجبني كثيراً لشاعرة أمريكية تدعى موريك ريكايستر تقول: ((يقال إن العالم مصنوع من الذرات! وأنا أقول إنه مصنوع من القصص)). شخصياً أعتقد بصحة ذلك، فالعالم مصنوع من القصص، وجميعها إن كانت القصص التي نحكيها أو التي نسمعها أو تلك التي نختلقها ونعمل على تضخيمها، تمتلك القدرة على تحويل الماضي إلى حاضر كما يمكنها تقريب البعيد وجعله ممكناً ومرئياً.
لنتحدث عن الخسارات، كيف واجهتها وتغلبت عليها، أم أنك واجهت صعوبة في ذلك؟
أستطيع القول بأن خسارة الأشياء لم تكن تعنيني يوماً، إنما هي خسارة الأشخاص التي لطالما أثرت فيَّ وأوجعتني، وبعضها ترك فجوات في روحي من الصعب ملؤها من جديد. فالعالم بلا شك مبني على قاعدة معقدة من مجموع اللقاءات والفراق، من التملك والخسارة، وأفضل الأيام هي تلك التي لم نعشها بعد. وكل خسارة في الحياة يقابلها لقاء مع شخص لم نلتقِ به بعد. والحياة الكريمة في هذا الشأن، فهي لا تخذلنا أبداً.
في الحقيقة، أنا أكتب لكي أحتفل بحقيقة الحياة، ولأدين كل ما يعيق طريقنا لمعرفة الذات ومعرفة الآخرين، الذين يشكلون باختلافهم ألوان قوس قزح الأرض. فحقيقتنا هي أعظم بكثير مما يقال لنا.
ماذا عن الخوف؟
الخوف يتربص بنا ويهددنا، يقول الخوف إذا قمت بممارسة الحب ستصاب بالإيدز وإذا أدمنت التدخين ستصاب بالسرطان، إن تنفست سيقتلك التلوث، وإن شربت الكحول ستتسبب بحادث سير، إذا أكثرت من تناول الطعام ستصاب بالكوليسترول، وإذا عبرت عن رأيك بصراحة ستجد نفسك عاطلاً عن العمل، إذا مشيت ستكون معرضاً للعنف، وإذا غرقت في التأمل ستصاب بالحزن، إذا راودك الشك ستصاب بالجنون، وإذا كنت حساساً ستبقى وحيداً.
ما هي أكثر التقاليد جمالاً في أمريكا اللاتينية بالنسبة إليك؟
هنالك أسطورة تناقلها السكان الأصليون أو من يسمون بـ»لوس أنديهيناس» تحكي قصة خلق آلهة المايا للرجل والمرأة، تقول تلك الأسطورة إن الآلهة كانوا يشعرون بالضجر لذلك خلقوا البشر، وقد حاولوا مرات كثيرة قبل أن يتمكنوا أخيراً من تشكيلنا على الصورة التي نحن عليها اليوم. وحسب الأسطورة، فقد صنعت آلهة المايا الرجل والمرأة من الذرة، لكن قبل ذلك كانت قد صنعتهما من الخشب، وكانا كاملين باستثناء عيب صغير لكنه كان خطيراً، فلم يكن في إمكانهما التنفس! وبالتالي لم يكن في مقدورهما الكلام.
وحين أفكر في تلك الأسطورة يخطر لي أنه إذا لم يكن في إمكانهما التنفس إذاً فهما لم يعانيا يوما من اليأس! إذاً هذه هي القاعدة إن أردنا الوقوف علينا أن نتعلم كيفية الوقوع، ولكي نربح علينا أن نتقن الخسارة، ولنكن على قناعة تامة بأن هذا جزء من الحياة؛ الوقوع مراراً والنهوض من جديد.
بعض الأشخاص يقعون ولكنهم لا يتمكنون من النهوض مجدداً، وهم الأشخاص الأكثر حساسية الذين يتأثرون بشكل أعمق من غيرهم أولئك الذين يؤلمهم العيش، أما الأوغاد أبناء العاهرات الذين يمتهنون إرهاب الإنسانية يعيشون حياة طويلة لأنهم ببساطة لا يملكون ذلك الجزء في الإنسان، وهو نادر هذه الأيام، القادر على جعل حياة من يمتلكونه جحيماً إن هم ارتكبوا أفعالاً شنيعة، وأتحدث عن الضمير بالطبع.
حدثنا عن مدينة مونتي فيديو وطبيعة الحياة فيها، وكيف ترى الأوروغواي اليوم؟
إذا طلب مني أن أختار مدينة صالحة للعيش فسأختار مونتي فيديو، ليس لأني ولدت فيها؛ فالمرء لا يختار المكان الذي يولد فيه، أختارها لأنني ما زلت قادراً على المشي في شوارعها وتنفس هوائها، وهما فعلان لا تستطيع ممارستهما حالياً في معظم دول العالم. كانت معلمتي في المرحلة الابتدائية تقول لي: ((تنفس يا طفلي، فالتنفس مهم جداً)). وكذلك المشي، فأنا أمشي كثيراً، وفي الحقيقة أنا أمارس فعل المسير نحو الحياة، أمشي لساعات على الشاطئ وبهذا أوفر مبالغ طائلة، تلك المبالغ التي كنت سأنفقها على التحاليل والعلاج لأمراض كنت لأصاب بها لو أنني لا أمارس رياضة المشي.
لو تحدثنا قليلاً عن الصداقة…
الصداقة هي وجه من أوجه الحب، وأعتقد أنها تقوم على قاعدة الصدق. أما الصداقة الأخرى التي تعرف عن نفسها بكلمات مثل أحبك جداً وكم أنت جميل…إلخ فليست بالصداقة الحقيقية، فالأصدقاء عندما يكونون أصدقاء حقيقين فهم يعمدون إلى قول ما يجب قوله حتى لو كان مؤلماً، لهذا فمن الصعب إيجاد الصداقة الحقيقية المبنية على هذه القاعدة، فذلك يتطلب المرور بمراحل معقدة. لكن الإنسان عندما يحب بحق، إن كان الصديق أو الحبيب، فهو يعشقه بكل ما فيه.
ما هي وظيفة الأدب والفن برأيك في يومنا الحاضر؟
حسناً، من الصعب أن أعطيك إجابة عن هذا، فعادة النظرة العامة التي يملكها الأغلبية عن الفنانين والمبدعين أنهم متكبرون ومتغطرسون، وينظر إليهم وكأنهم وجدوا لإنقاذ الآخرين، وأن الله أعطاهم قبلة في المهد فصاروا المختارين إذ خصهم بملكة الإبداع. حسناً، لا أؤمن بكل هذا، بل أعتقد بأن أفعالاً بسيطة كالتعاطف إذا ما فسح لها المجال لتتحول إلى فعل فقد يكون تمريناً جيداً على التواضع وفي إمكانه أن يعلم الإنسان كيفية التعرف على نفسه وعلى الآخرين، وأيضاً فهو يساعدنا على اكتشاف عظمة الأشياء الصغيرة المتوارية عنا، وذلك يقودنا إلى إدانة العظمة الزائفة في الأشياء الكبيرة وسط عالم لا يملك القدرة على التمييز بين مفهومي العظمة والضخامة.
منذ مدة قال لي صحافي من مدريد: ((عندما أقرأ ما تكتبه يخيل إليَّ بأنك تضع عيناً على المجهر وأخرى على التلسكوب)). وأعتقد أنه وصف جيد لما أحاول فعله عن طريق ملاحظة الأشياء التي لا يلاحظها أحد في العادة، ولكنها في الحقيقة تستحق أن تكون مرئية من الجميع.
إن عالم الأشياء الدقيقة المجهرية التي لا يراها أحد هو برأيي الذي يغذي عظمة الكون، وفي الوقت نفسه يجعلني قادراً على الوقوف على الأسرار العظيمة للحياة، سر الألم الإنساني والكفاح من أجل أن يكون هذا العالم للجميع وليس لأناس بعينهم، وأشياء أخرى كأهمية الجمال والروعة لأولئك الناس البسطاء الذين يمتلكون هالة عظيمة من الروعة والرقة يمكن لها أن تتمثل في صورة أو في أغنية أو في محادثة عابرة. ذاك هو ذاته ما يملكه الأطفال، ولكننا، نحن البالغين، نجتهد في جعلهم نسخة عنا، وهذا ما يدمر حياتهم بالكامل. لكن في الحقيقة علينا نحن البالغين أن نتعلم من الطفل، الأطفال جميعهم وثنيون يعبدون الطبيعة. أذكر يوماً عندما خرجت في إحدى الصباحات، وكان لروحي يومها إيقاع حزين، فكنت قد فقدت صديقي ورفيقي مورغان الكلب الذي رافقني لسنوات، وبينما كنت أتمشى في الحي صادفت طفلة تبدو في الثالثة من العمر كانت تقفز باتجاه معاكس لاتجاه الطريق وتلقي تحية الصباح على النباتات والأشجار ((بوينوس دياس باستو!)) كانت تقول، في هذا العمر جميعنا وثنيون نعبد الطبيعة، وأيضاً شعراء ومبدعون، وبعد ذلك يتولى العالم الذي نعيش فيه تخريب أرواحنا، وهو ما ندعوه النمو والكبر.
* فصل من كتاب «دردشة معلنة»، من إعداد وترجمة (عن الاسبانية): أمل فارس، صدر عن دار ممدوح عدوان للنشر والتوزيع، 2017.