بقلم: محمد منسي قنديل
«… ناتاشا كانت الأولي من بناتي التي عضتها القوارض، ربما حدث هذا وهي نائمة، ولكنها كانت أصغر من ان تخبرنا ماحدث بدقة، كانت هي واريل اختها التوأم تتحدثان الإنجليزية ولكنهما تستخدمان العامية المصرية في بعض الأشياء، الألوان، أسماء الحيوانات، يقولان «عيش» على الخبز، «ميه» للمياه، واذا حملت واحدة منهما ودرت بها كانت تضحك وتقول «تاني»، وتتدخل اختها صائحة تاني.. تاني.. وكان عمرهما لا يزيد عن العامين.
«لاحظت علامات العض وأنا اغير لها ثيابها، كان هناك ثقبان قبيحان لونهما احمر في بطنها بالقرب من صرتها، فوق حافة البامبرز، ولو أنها صرخت فلم نستطع أن نسمعها لا أنا ولا أمها، كنا قد انتقلنا من نيويورك إلى القاهرة في أكتوبر عام 2011، العام الأول من الربيع العربي، وأخذنا سكنا في الزمالك، الجزيرة الموجودة وسط النيل، التي كانت موطن الطبقة الوسطى، استأجرنا شقة في الدور الأول في بناية قديمة، مثل بقية البنايات في الشارع، جميلة ولكن باهتة، السلامة لم تكن لها أولوية في القاهرة، ولكن أمور المدينة تدهورت خلال الثورة، انقطاع الكهرباء كان دائما، وكانت هناك أيام دون مياه جارية، ارتفعت اكوام القمامة التي جذبت الفئران، كانت هناك كومة تحت نافذة ابنتي تماما، ورأيت اكثر من «بنت عرس» وهي تدخل في احدى فتحات البناية، وفي العيادة قالت لنا طبيبة الأطفال، أنها أثار بعض الحشرات ، قلت: أنها لا تبدو كذلك، قالت بلا اهتمام: ربما كانت قرصة بعوضة، ولكني أخذت صورة من العضة وارسلتها إلى صديق متخصص في الامراض الجلدية في أمريكا وجاء الرد، قام الصديق بعدة اجتماعات مع بعض الأطباء واتفق الجميع إنها عضة ثعبان أو أحد القوارض، وهكذا أخذنا تاكسي وذهبنا للوزارة حيث اشترينا لقاحا ضد السعار، وانتقلنا إلى طبيب أطفال آخر واشترينا عددا من الشرائط اللاصقة لصيد الفئران، ووزعتها في أرجاء المنزل، وفي الليل كنت استيقظ على صياح الطفلتين: ابي.. فأر، ابي.. فأر، شيء ما كان يتحرك في مطبخهما الصغير الذي تلعبان به، وعندما فتحت باب الثلاجة الصغير اطل علي رأس فأر صغير، كيف بحق الجحيم دخل إلى هنا؟ كل الفئران التي اصطدناها كانت صغيرة، لا يوجد بينها فأر كبير الحجم ليحدث هذه العضة، ولكنهم ظلت تأتي ..تاني.. تاني.. تاني.. عندما جاء الدور على اريل، كانت العضة في ظهرها وليس في بطنها، وكانت هناك أربع علامات ومرة أخرى ذهبنا للوزارة لشراء لقاح التطعيم.
يئسنا من المصائد واللصقات، ذهبت أنا ولزلي لأحد الأصدقاء الذي اعطانا قطتين، ذكر وأنثى، وكان التفريق بينهما سهلا، الذكر اضخم، وملامحه أكثر شراسة، وعلى رأسه خطوط كالنمر تكون حرف أم، لذلك اطلقنا عليه اسم مرسي الذي كان قد تولى حكم مصر في هذا الوقت، وفور وصول القط للمنزل قام بعض ليزلي في ذراعها بطرية كافيه ليترك أثره، وتاني.. وتاني.. ذهبنا للوزارة، وبعد عام في القاهرة كنت أنا الوحيد في العائلة الذي لم يأخذ لقاح السعار بعد.
بعد وصول مرسي لم يعد هناك فئران، أكل رأس فأرين وترك اجسادها خلفه، وكفت البقية عن الظهور، كان يشبه القطط الفرعونية المرسومة على الجدران، وحتى اسمه «موس» يعني قط في الهيرو غليفية، ومثل فعلت الفئران تعلمت الطفلتان ان تعطيا مرسي المساحة الخاصة بي، ابتعدتا عنه، ولم هو يكن لدية وقت للعب معهم او الصبر على شد ذيله، وقم بخربشتهما لدرجة انبثقت منهما الدماء، وفكرنا في اجراء عملية لنزع مخالبه، ولكن كان سيضعه في موقف سيء أمام جيراننا من القوارض والقطط المتشردة، كان من الصعب ابقاؤه داخل المنزل، كان قويا لدرجة أن يفتح باب السلك، أو يختبئ في مكان قريب بحيث يتحين الفرصة عند فتح الباب الكبير ويقفز خارجا، وقد حذرني سيد الزبال أنه من الممكن أن يستولى عليه شخص ما، قال: انه قط جميل، بلدي، قال هذا بعد أن رأي الخطوط على جسده، يعتقد المصريون أنهم أول من قاموا بتربية القطط في التاريخ، وقد رفضوا تصديرها للخارج منذ 37 قرنا من الزمان، وكانوا يطلقون على الفينيقيين سارقو القطط لأنهم كانوا يحتاجونها لوضعها في سفنهم لتطهيرها من الفئران، ولكن شغف المصريين بالأطفال كان أكثر بكثير من القطط، وكان التوأم يلفتان الأنظار كلما خرجتا إلى شوارع الزمالك، ولم نكن أنا وزوجتي نجعلهما ترتديان ملابس متشابهة، ولكن عندما كبرا قليلا كان هذا كان يغضبهما كثيرا، واضطررنا لشراء زوج من كل شيء، وعندما كانا يسيران هكذا في شوارع الزمالك كان الأمر اشبه باستعراض، ومرة سألني أحد الأجانب إن كنت قد رأيت توأم الزمالك، أنهما اشهر شيء في هذا الحي، كان للزمالك الكثير من الخصوصية، أنها موطن الأغنياء القدامى، ورغم أنها في قلب المدينة إلا أن النيل يعطيها إحساسا قويا بالاستقلالية، وفي أكثر أيام الثورة كان يمكن نسيان أن ميدان التحرير لا يبعد أكثر من واحد ونصف ميل، كنت أرى اغلب سكان الزمالك يتابعون الثورة من خلال شاشة التلفزيون وكأنها تدور في أرض بعيدة.
كان سيد الزبال يقول لي دائما: «هذا القط الاخوانجي يقوم بأعمال رهيبة تماما كما يفعل الرئيس الاخوانجي بالضبط»، وكان الطبيب البيطري قبطي مثل عشرة في المائة من تعداد البلاد، وقال غاضبا حين ذهبت ليزلي إليه حاملة القط: أنا اكره هذا الاسم، وكان مرسي يقاوم الطبيب بشراسة وهو يحاول تقليم مخالبه، وسرعان مابدأ التوأم يتحدثان عن مرسي الجيد (القط) ومرسي السيء (الرئيس)، وكان هذا تأثير مربيتهما عطيات وهي أيضا قبطية، ولم يكن هذا غريبا، فقبل عام من توليه الحكم أعلن مرسي أنه من المستحيل أن يتولى قبطي أو امرأة حكم مصر، كانت البلاد في حالة من الفوضى، وبعد نصف عام من حكمه جاءت لنا ملاحظة من المدرسة تقول نظرا لانتشار الغاز المسيل للدموع في الزمالك فإن المدرسة ستغلق أبوابها اليوم، أصبحت القاهرة مدينة مضطربة، احتفظت في الشقة بكمية من النقود، ووضعت خطة للرحيل السريع، واخذت الكهرباء تنقطع أكثر من مرة في اليوم، واعلنت الحكومة أنها ستخفض الانارة في الشوارع، واصبح المطار مظلما، لم يكن هناك سواح على أي حال، ولم تعد موجات المتظاهرين تنقطع كل يوم. وأعطى الجيش للرئيس مهلة قدرها 48 ساعة للقيام بانتخابات مبكرة، ثم جاء اليوم الذي كان الجميع يعرفون أنه نهاية عهد مرسي، وجاءت عطيات وقد طبعت على يدها الوان العلم المصري، وصنعت لبناتي ثيابا بنفس الألوان، كانت تريد ان يحتفلن معها، ولكن ذات يوم من أيام الشتاء غادر القط مرسي البيت ولم يعد، بعدها لمحت بعض الفئران وهي تجري عبر الشرفة وادركت أن مرسي قد خسر المعركة، وتذكرت كلمات سيد الزبال وهو يحذرني أنه ذات يوم سيقوم أحد ما باختطافه، شعرت البنتان بالإحباط، كان مرسي قد تسامح معهما وابدى نوعا من التعاطف، سرت في شوارع الزمالك وأنا انادي: مرسي، مرسي، ونظروا إلي باستغراب، هذا الأمريكي المجنون الذي يصيح في الشوارع مناديا على الرئيس المخلوع».
هذه مقاطع متفرقة من مقال للكاتب بيتر هيسلر الذي كان يعمل مراسلا لمجلة النيويوكر في القاهرة في وقت الثورة.