الجزء الثاني
بقلم: محمد منسي قنديل
عندما احتل نابليون بونابرت مصر لم يكن هذا نهاية المطاف بالنسبة له، لقد عاش وهو يقاتل من اجل صنع امبراطورية، لاتقل في اتساعها وعظمتها عما حققه الاسكندر، ولم يرض أن يحاصر الانجليز شواطئ مصر ويحوله هو جيشه إلى مجرد فئران في المصيدة، كان عليه أن يفتح طريقا للإفلات من قبضتهم، وهكذا واتته تلك الفكرة المجنونة، أن يسير شمالا إلى فلسطين، ويغزو الشام وبعدها يذهب إلى تركيا ليقتل السلطان العثماني ثم يغزو اوربا كإعصار قادم من الشرق، كان هول من يدرك أنها فكرة مجنونة ولكنه لم يجد غيرها، لم يجد وسيلة أخرى لفك الحصار الانجليزي من حول عنقة، وسار بجيشه بالفعل إلى فلسطين، ولكن جيوشه لم تستطع تجاوز “عكا”، قهرته أسوارها الصلدة وأصاب الطاعون جيشه بعد أن تفشى بين جنوده، تلقى اولى الهزائم وأقساها، انهار حلمه في صنع في امبراطورية شرقية بالكامل، ولكنه كان يجب أن يعود إلى فرنسا، عاد إلى الاسكندرية وتسلل منها ليلا بواسطة مركب للصيد صغير، لن يأبه به الانجليز كثيرا، وقبل ان يرحل جمع أكبر قواده، الجنرال عبدالله مينو والجنرال جان كليبر، أراد أن يختار منهما القائد الذي سيشغل مركزه، وفوجئ مينو ان نابليون قد اختار كليبر بدلا منه، رغم انه الأذكى والأقدم، الحقية أن كلاهما كان غبيا، كليبر كان يؤمن أنه لإبقاء لهم في هذه البلاد، ولكنه لا يملك اي وسيلة للجلاء عنها، ومينو يؤمن انه من الضروري البقاء والصمود رغم أنه يسبح وسط محيط من الكراهية، عاد مينو إلى رشيد حانقا، يراقب بطن زوجته التي تكبر ويدرك انه لاجدوى ، سيظل الرجل الثاني رغما عنه، ستدفن مواهبه في هذه المدينة الساحلية النائية.
لكن الزمان سريع التقلب، فوجئت زبيدة به ذات يوم وهو يتخلى عن حنقه واحباطه، يدخل غرفتها وعلى وجهه ابتسامة واسعة، يصيح عاليا: مدام.. تهنئتي.. لقد اصبحت ملكة مصر، لم تفهم، ولكن زوجها كان قد اصبح ساري عسكر عموم مصر، حاكمها الفعلي، فرعونها الفرنسي، كان عليها أن تترك رشيد مدينة عمرها وتذهب إلى عاصمة ملكها في القاهرة، ملكة حامل، ثقيلة الخطى، كان كليبر قد دفع ثمن شراسته واسرافه في قتل عوام الناس، تم اغتياله على يد طالب علم من حلب يدعى سليمان، كان مينو اسعد الناس بسماع هذا الخبر، نظر إلى بطنها مبتهجا وهو يقول: اذا كان المولود ذكرا سأسميه سليمان، وسيكون ملك مصر المقبل، لكن القاهرة لم تكن هي التي حلمت بها زبيدة، كانت مدينة عاجزة عن مداواة جراحها، وترميم الخراب الذي حل بها، كانت تدفع ثمن ثورتها الثانية، وكان كليبر اشد شراسة من الذي سبقه، رأت زبيدة عيون الثكلى والأرامل، شاهدت العجزة والمصابين والأطفال الذين تيتموا ينامون جميعا على أنقاض مدينتهم، شعرت أنها ملكة على الحطام، ولد سليمان وسط البكاء والعويل، كانت المدينة قد ضاقت بمغتصبيها وتاقت لأي نوع من الخلاص، لم تهتم بهذه الملكة الرشيدية كثيرا، يكفيها ما مر عليها من حكام، مينو وحده الذي كان يحلم أنه سيصبح فرعونا جديدا، سوف يقنعهم بإسلامه ويجعلهم يسيرون خلفه لمحاربة جنود السلطان والانجليز على السواء، يحتاج فقط لبعض الوقت، فرصة ليرسم خططا لمملكته الجديدة، ولكن الحوادث كانت تسابقه، جنود العثمانلي يتقدمون في سيناء، والإنجليز ينزلون جنودهم في الإسكندرية، سيسير إليهم أولا، هم الأخطر، ولو هزمهم سيخيف السلطان وجنوده.
كانت هذه معركته الأولى التي يخوضها كقائد أوحد، حاول ان يباغت الانجليز ولكنهم كانوا مستعدين له، ليسوا بلهاء كالأتراك، ردوه على اعقابه واسروا جنوده وقتلوا منهم عددا كبيرا، هزيمة صادمة، جعلته يفقد زهوه مبكرا، ولم يكن يستطيع التراجع للقاهرة لأنه يدرك أنهم سيلاحقونه، هم والاتراك سيطبقون عليه كالكماشة، ظل واقفا في مكانه عاجزا عن الصمود وعن التراجع، وجاء عرض الصلح من الإنجليز لمرة واحدة، اذا قبلت بالرحيل سنوفر لك السفن اللازمة، وإذا رفضت سنتركك تتعفن في هذا البلد الحار، رأي عيون جنوده المتعبة، وجروحهم المستعصية على الشفاء، ماذا كان امامه غير أن يقبل بكل شروطهم؟
مرة أخرى تجد زبيدة نفسها مرغمة على الرحيل، عن رشيد أولا، ثم عن مصر كلها بعد ذلك، لا تدري حقا ما يدور حولها، ولكن ما تعلمه حقا أنها قد فقدت كل مستقر لها، حتى هذا الزوج الذي تتبعه رغما عنها اصبح يتباعد عنها، وسيزداد ابتعادا عندما يعود إلى بلده الأصلي، لم تكن منهم، تعلمت لغتهم وأنجبت ابنا لهم ولكنها ليست منهم، رحلة مجهولة في ارض مجهولة، يتركها زوجها في “مارسيليا” ويتجول كثيرا، يعود أحيانا و لا يعود في اغلب الأحايين ، لا يبدى أي اهتمام بها، ولكنه في احد المرات يأخذ منها ابنها، يرسله بعيدا حتى تربيه أحد الاسر على التقاليد الفرنسية، يحاصرها الفراغ من كل جانب، بعيدة عن بلدها وابنها، حتى زوجها كف عن زيارتها أو ارسال المال اللازم لها، تسمع انه ترك فرنسا وأصبح حاكما على فلورنسا، تسمع أنه اتخذ من أحدى الراقصات عشيقة له ، ورفعها حتى اصبحت حاكمة بأمرها في تلك المدينة الإيطالية البعيدة، من المؤكد انه نسيها، سقطت من ذاكرته مثلما سقطت من ذاكرة الجميع، ملكة الحطام، تهبط إلى رصيف الميناء، جائعة وتعيسة ومنبوذة، تتأمل السفن الراسية أو التي تتأهب للرحيل، آلا توجد سفينة واحدة، واحدة فقط تحملها إلى رشيد، تجلس حائرة فوق لفة من الحبال المالحة، يتأمل البحارة العابرين شكلها الغريب، في كل الموانئ يوجد دائما هذا النوع من النساء الوحيدات، يتوقف أمامها احد البحارة، يتطلع إليها فتقول له بفرنسية متعثرة: آلا توجد سفينة تأخذني إلى رشيد، يقول لها على الفور: بالطبع توجد، تعال معي، تتبعه إلى سفينة راسية، تهبط خلفه إلى قاعها حيث لا توجد إلا العتمة والرطوبة، يسجيها على حشايا لها طعم الملح، تصرخ فلا أحد يسمع صوتها، ويرفع ثوبها ويعري جسدها، تدرك أنها مهما قاومت فلن يستمر ذلك طويلا، تشهق وهي تستسلم له، ويشعرها هذا بالدف ء لمدة قصيرة، وباللزوجة لبقية الليل، تشهق بالبكاء وهي تجد نفسها على الشاطئ من جديد، ليس في يدها إلا بضع عملات صغيرة من الفضة، تظل ترتعد طوال الليل عاجزة عن النوم، لابد أن هناك سفينة ما سوف تحملها، تهبط إلى الميناء في اليوم التالي، وتسأل السؤال نفسه لبحار ثان فيأخذها إلى قاع سفينة مختلفة، يطعمها الخبز وجرعات من شرب “الرم” ، مهما اختلف البحارة لا ترحل السفن ولا يدوم الدفء طويلا، ولكن السؤال يتواصل كل يوم، والإجابة دائما واحدة.