بقلم: جوزيف أيوب
شاءت الصدف أن أصل إلى مونتريال – كندا… في الرابع عشر من شباط 1970 .. قيل لي أنه «عيد الحب».. يا ألله .. ما أجمله من عيد ! ..لم نكن نعرفه في بلادنا آنذاك .. وإن كنا نعيشه كل يوم … ومنّْ منَّا لم يحب أو يعشق !… هناك من يعشق. في العلن .. و هناك من يعشق في السر و الخفاء … وبصمت و حذر! … حتى الوردة كانت تذبل … قبل وصولها أحياناً !
يذيع قبطان الطائرة بأننا نحلق فوق مونتريال … مستعدون للهبوط … كان البياض يغطي مساحة البلد بأكملها حين تطلعت من النافذة الصغيرة بقربي … إذاً مع هذا البياض .. سأقضي ما تبقَّى من عمري !
أذكر في اليوم الثاني .. حين حضر بعض الرفاق لتهنئتي بوصولي …كنا نقيم آنذاك في الطابق العلوي من مبنى صغير يطل على شارع «شيربروك» الشهير … في الطرف الشرقي من المدينة …أمامنا حديقة صغيرة .. و الثلج يغطي كل شيء. يقف أحد الرفاق بجانب النافذة المطلة على الشارع العام … يشرح لي باعتزاز.. عن كيفية تنظيف الشوارع من الثلوج المتراكمة .. بكل مهارة و دقة .. قائلاً:
- تأتي في بادئ الأمر الجرافات الكبيرة و تزيح الثلوج المتراكمة في وسط الشارع إلى أحد طرفيه ..ليُنقل فيما بعد بكميونات خاصة ..تمر قبلها «التوينغ» لتسحب كل سيارة تعترض طريقها … أنظر .. أنظر السيارة السوداء .. وكيف تمَّ سحبها بالتوينغ لتُرمى في مكان بعيد …وعلى حين غفلة يأخذ بالصياح … سيارتي … سيارتي … و يهرول مسرعاً إلى الخارج ليتدبر الأمر !
كما أذكر بعد أيام قليلة .. و بينما كنت «أتفتل» في قلب البلد .. قررت العودة سيراً على الأقدام لتأخر الباص … و يا ليتني لم أفعل ! .. فالسير لم يكن نزهة تحت المطر …و المسافة لم تكن «شربة سيكارة» ولا أثنتين ! .. ودرجة الحرارة لا تقل عن الثلاثين تحت الصفر … و حساباتي كلها كانت ..غلط بغلط. وحسبت بعد وصولي إلى البيت .. بأن أنفي قد سقط مني في مكان ما .. على الطريق …و أذنتايَ .. تقلَّصت … ثم أُبيدت «بنسفة هوا» … و قدماي .. لم أعد أحس بهما .. فكنت كمن كان «واقف عل الهوا» ..و أصابعي العشرة … عرفت فيما بعد… وبعد أن حلَّت دموعي المتجمدة … بأنها لا تزال عشرة ! استقبلني أحد الجيران الظرفاء مبتسماً .. قائلاً: - هذا هو شتاؤنا … ستتعود عليه. ثم تابع حديثه قائلاً: أتعرف بأن فصول السنة بكندا .. هي فصلان ! «الشتاء الماضي … و الشتاء المقبل» .. ثم انتابته ضحكة فجائية ارتحت لها كثيراً …و أخذت أضحك دون توقف .. وهو يضحك، … ربما كان يضحك على «منظري» … إلا أني كنت أضحك من شدة الفرح … ومن عودتي إلى البيت حياً سالماً… و لن يخبر أحدهم أمي … وهي بانتظاري : «هذا هو ابنك نرده إليك .. وجدناه على قارعة الطريق …لا حركة ولا حس … الله يرحمو !».
من أظرف ما سمعت من حكايات الشتاء في كندا ما حدثني به صديق كندي … وهو مدرس لمادة التاريخ .. وقال :
يُرسل في أحد الأيام قائد أحد معسكرات البيض .. وكان جديداً في منصبه ..بعض الصيادين من تجار الفرو إلى أحد مراكز الهنود الحمر « السكان الأصليين» للاستعلام عن فصل الشتاء المقبل .. لتحضير ما يلزم من الحطب.
يأخذ زعيم الهنود الصيادين و يذهب بهم إلى إحدى التلال العالية …يضع كفه على جبينه و يحدق في الأفق البعيد ثم يخبرهم بأن الشتاء القادم هذا العام عادي … عادي جداً. غير أن قائد المعسكر لم تطمئن نفسه … يأمر بتحضير بعض الحطب …و يرسل الصيادين مجدداً للتأكد من الأمر… وقد فعل حسناً. و بعد الفحص و التدقيق .. أخبرهم زعيم الهنود .. أنه في الحقيقة … سيكون الشتاء أقسى مما تصور !
تتكرر الزيارات .. و كان .. كلما اقترب فصل الشتاء … يعود الصيادون بأخبار لا تطمئن ولا تسر .. فيأمر قائد المعسكر بقطع المزيد من أغصان الشجر .. و تحضير ما يلزم من الحطب ! إلى أن عيل صبره .. وجن جنونه .. و قرر الذهاب بنفسه.
يرتدي قائد المعسكر ثياب أحد الصيادين و يذهب لمقابلة الزعيم … و يترجاه قائلا: بالله عليك … و حتى يكف البيض عن إزعاجكم .. هلا أخبرتنا عن سر معرفتكم بالأمر … و تأكيدكم له.
يأخذ زعيم الهنود قائد المعسكر من يده إلى أعلى التلة … يضع كفه الأيمن على جبينه … و يحدق بالأفق أمامه… مشيراً بأصبع يده اليسرى قائلاً: أترى معسكر البيض هناك … هناك .. انظر جيداً ..فكلما ازداد ارتفاع الحطب ….كلما كان الشتاء القادم … أشد و أقسى !
أتقدم بالتهاني الحارة …بمناسبة عيد الحب .. عيد البهجة و الفرح .. عيد الصفاء و الوفاء .. و العطاء …
إلى كافة الأصدقاء … و الأحباء. وكل الحب لبلدنا الغالية .. سوريا…
كما أحييِّ كندا من القلب …لكل ما تقدمه لشعوب الأرض ..