بقلم : نعمة الله رياض
قبل شروق الشمس بوقت قليل ،أيقظت ناميثا زوجها من نومه العميق وهي منزعجة للغاية ، وعلي وجهها إرتسمت كل مظاهر الرعب والهلع وهي تصيح :- أوناس .. يا أوناس إستيقظ ..إستيقظ ، أنظر ماذا يحدث في الخارج !! هرع الزوجان نحو النافذة وأزاحا الستارة قليلا ، ليشاهدا أغرب منظر في حياتهما ، كان الطريق خالي من المشاه ولا يوجد به سوي جنوداُ إصطفوا علي الجانبين شاهرين حرابهم ، وفي وسط الطريق كانت تتحرك مركبات حربية تجرها الخيول ويعتلي كل منها جندي قابضا” علي رمحه ..
بعد قليل ظهرت مركبه كبيرة يجرها حصانان وقف فيها رئيس الجند وبجانبه جندي ضخم البنيه يدعو بصوت جهوري جميع أفراد شعب شيدت (الفيوم حالياً ) للتجمع في الساحة العامة للمدينة لسماع بيان هام ..
إحتشد في الساحة بعد قليل معظم قاطني المدينة . ومنهم أوناس وناميثا وإبنتهما ميريت، وحضر أيضا” بعض الوافدين من المقاطعات القريبة الذين أتوا للتسوق ومبادلة بضائعهم .. وقف نفرو حاكم المقاطعة وصاح بصوت عظيم : يا أهل شيدت الكرام ، لقد عاني شعب المقاطعة من سطوة وتسلط أمنمحات فرعون كيمت (مصر حالياً ) علي مقدراتنا، وإضطهاده لشعبنا ، وساد الفساد والرشوة في حاشيته ، وتدهورت الأخلاق ، وإنتشرت الأمراض والشذوذ بين الرجال وبين النساء في جميع الأرجاء ، وقد فقدنا كثيرا” من شبابنا في المعارك الطاحنة التي خاضها جيشنا ضد أعداء الوطن ، وقد أدي كل ذلك إلي تراجع عدد المواليد في مقاطعتنا ، ولم يفدنا كثرة الدعاء في معابد الآلهة التسعة الذين نعبدهم..الآلهة آمون- رع وشوم وتكنوت وجب ونوت وايزيس وأوزوريس وست ونفتس المقامة في مدينتنا شيدت.. فلماذا نستمر في عبادتهم ، وتقديم القرابين لهم ولكهنتهم ؟، ونهمل إلهنا القوي سبك (التمساح) الساكن في بحيرتنا المقدسة (بحيرة قارون حالياً ) .. فمن الآن وصاعداً ، سنعبد فقط ألإله سبك ونقدم له وحده القرابين ، وسنحول جميع المعابد في مدينتنا من عبادة الآلهة التسعة إلي عبادة الإله الواحد سبك ، وستتغير الطقوس والشعائر والأناشيد إلي تبجيل إلهنا الجبار سبك وتمجيدة .. كلكم تعلمون أن الفرعون إمنمحات الذي يحكم كيمت في أهناس (أسيوط حالياً) ، ليس كأبيه الفرعون العظيم الذي إهتم بالزراعة وشق قناة مرمر بين النيل وبحيرتنا المقدسة ، وأقام سداً عليها ببوابات ضخمة ، ليحمي أرض وادي النيل من خطر الفيضان ، أو ليصرف المياة من البحيرة للترع في أوقات الجفاف ، وبهذا أصبحت مقاطعة شيدت سلة المحاصيل والغذاء والفواكه لشعب كيمت كله، والآن أهمل إبنه الفرعون الحالي كل شئ وتمرغ في اللهو والإنحلال ، وإعتمد علي إنجازات أبيه .. وبناءاً علي ذلك قررت أن أنقذ مقاطعتنا العزيزة من براثن الإهمال والتدهور، وأنصب نفسي فرعوناً علي شيدت ، أطلب الآن من رئيس الجند أن يتلو عليكم الأوامر والتعليمات الجديدة التي أصدرناها لصالح المملكة.. إنحني رئيس الجند حتي لامست جبهته الأرض ، ثم قبل يد الفرعون الجديد ، وتحول للحشد الحاضر وقال :
- يا شعب شيدت العظيم ، نهنئ أنفسنا ومملكتنا الفتية بفرعوننا المفدي سبك نفرو، ونتعهد أمامه أن نفتدي مملكتنا بكل ما نملك من أرواح ودماء ، وسنبني أسواراً عالية حول مدننا ونحرسها من الأعداء ليل نهار بجنودنا البواسل.. إننا نتطلع للمساواه بين أفراد الشعب ، فلن يكون بيننا غني أو فقير ، لذلك سيرتدي
كل منا زي مميز وموحد كل حسب مهنته فالمزارعون لهم زي وللبناؤن زي آخر وصائدو الأسماك لهم زي والجنود لهم زي خاص بهم وهكذا .. أما بخصوص النساء فقد رأينا أنه من الأفضل تكريمهن بأن يلازمن منازلهن يرعون عائلاتهن ويجهزون الطعام ويتولون النظافة وغسل الملابس إلي آخر ذلك من الأعمال المنزلية ، وبخصوص تراجع عدد المواليد ، فلنا ترتيب آخر سنعلنه عليكم في القريب العاجل، والآن إهتفوا معي : تحيا شيدت .. تحيا شيدت .. تحيا شيدت !!
شعرت ناميثا بالقلق والتوجس من القرارات الجديدة .. وقبضت بشدة علي يد زوجها، بينما هرعت إبنتهما ميريت لتمسك باليد الأخري لأبيها وهم في طريق عودتهم للمنزل .. في صباح اليوم التالي ، تحققت مخاوف ناميثا ، فبينما كانت تطحن القمح بحجري الرحي وتخبز العجين مع إبنتها ، لتعد الفطير والطعام لزوجها الذي كان يتأهب للذهاب لعمله ، سمعوا طرقاً متواصلاً علي الباب ، أسرع أوناس بفتح الباب ليفاجئ بضابط وثلاثة جنود شاهرين حرابهم ومعهم إمرأة ترتدي ملابساً عسكرية ، قال الضابط :- إننا لجنة من اللجان المكلفة بزيارة جميع منازل مملكة شيدت لإعلان وتنفيذ المرسوم التالي : بإسم الفرعون سبك نفرو ، نظراً للنقص الشديد في عدد المواليد في المملكة مما يؤثر علي مقدراتنا وقوتنا العسكرية ، لذلك أمرنا بتشكيل فرقة تابعة للجيش من الإناث قوامها ثلاثة آلاف فتاة وإمرأة يتراوح عمرهن بين خمسة عشر وثلاثون عاما يتخصصن فقط في الحمل والإنجاب ورعاية الأطفال المولودين حتي سن الثالثة، وسيحصلن علي طعام وفير ورعاية طبية مميزة، وسيتم إعفائهن من الأعمال المنزلية ، ويكون ردائهن الموحد وغطاء الرأس أحمر اللون وسيطلق عليهن إسم ، فرقة أمهات شيدت ، وسيتم تعيين مشرفة لكل مائة أم ، كذلك أمرنا بتشكيل فرقة تابعة للجيش من الذكور قوامها ستمائة رجل يتراوح عمرهم بين عشرون وثلاثون عاما يتخصصون فقط في تخصيب أعضاء فرقة الأمهات، ويكون ردائهم الموحد وغطاء الرأس أزرق اللون، وسيطلق عليهم إسم ، فرقة الواهبون ، وسيعين مشرف لكل مائة رجل ، وليكن معلوماً لشعبنا العظيم ، أن الفرقتين المذكورتين سوف تؤديان خدمة وطنية جليلة للفرعون سبك نفرو ولمملكة شيدت الفتية..
طوي الضابط صفحة البردي المدون فيها المرسوم الفرعوني ، وحدق بحدة في أوناس وزوجته ناميثا وابنتهما ميريت وقال بصوت آمر :- أري إنكم صالحين لضمكم للفرقتين المذكورتين في المرسوم الفرعوني ، هيا إنضموا لإخوانكم في الخارج .. أندفعت ناميثا وإحتضنت زوجها وإبنتها وهي تصرخ قائلة :- لا ، لا، لن تفصلونا عن بعض، إننا نخدم وطننا ونخلص له ولا نستحق هذا الظلم .. بوجه جامد أشار الضابط لجنودة فقبضوا علي أفراد الأسرة وساقوهم للخارج .. وصل النساء والرجال المطلوبين إلي معسكرين كبيرين للجيش خارج المدينة ، عليهما حراسة قوية ، وبهما نصبت أعداداً كبيرة من الخيام ، تم إيواء كل عشرة نساء في خيمه ، وتم كذلك نفس نظام الإيواء في معسكر الرجال ..
في صباح اليوم التالي نودي علي الجميع ليقفوا صفوفاً متراصة لسماع تنبيهات من قائد المعسكرين الذي بادر بالترحيب بالوافدين، وقال لهم:- إنكم ستكونون فخراً لمملكة شيدت الفتية ومثلاً يحتذي لشعبها ، لذلك يجب عليكم التحلي بصفات وعادات جديدة وثورية .. إنسوا التحيات التقليدية القديمة مثل يوم سعيد ، كيف حالك ، مساء الخير .. وغيرها وقولوا : سبك يحرسك ، مساء سعيد مع سبك ، الآله سبك يرعاك ، وذلك لإننا بطبيعتنا شعب متدين ولديه وازع ديني قوي منذ فجر التاريخ ، فيجب أن ننسب كل شئ للإله سبك ، وهو الذي يرعانا ويحل مشاكلنا ، لذلك يتم منع قراءة وحرق كل أوراق البردي إلا التي تحتوي علي أدعية للإله سبك وعدم سماع أي أغاني إلا الأناشيد التي تمجد الإله سبك ، ويمنع منعاً باتاً الرقص والغناء في الحفلات والمهرجانات ..ويطبق عقاب شديد علي السارق والقاتل والزاني ، فإذا أخطأ أي فرد فسينتظره الجلد أو الرجم بالحجارة ، الذي ستقومون به بأنفسكم ، أو الشنق وتعليق جثة المشنوق علي جدار المدينة ليكون عبرة لنا جميعاً ، أما من يعارض نظامنا، فسنربطه بالحبال ونلقيه في البحيرة المقدسة ليتكفل به الإله سبك ويلتهمه جزاء خطيئته العظمي ..إنصرف التجمع وعادت ناميثا إلي خيمتها وجلست تبكي علي حالها ، فأحست بيد تربت علي كتفها ، التفتت لتجد زميلة لها في الخيمة تقول :- لا تحزني فكلنا نتجرع همومنا وعلينا أن ندعو الآلهة أن تنقذنا من هذا الكابوس ، إسمي نارمر، ما هو إسمك ؟ – ناميثا ، حكت كل منهما ما حدث لها ، وأصبحتا منذ تلك اللحظة صديقتين تبوحان كل للأخري بأسرارها.. في إجتماع دعت له رئيسة المشرفات، قالت : إننا نطلب من كل فتاة وأم أن تنسي نظام الزواج المطبق خارج هذين المعسكرين .. فما نفعله هو خدمة لمملكتنا وبمباركة الإله سبك ، وقد وعد الفرعون سبك نفرو بإهداء قلادة سبك الذهبية الثمينة ، لكل من تنجب خمسة أطفال وتربيهم حتي سن الثالثة وستنال حريتها وسنهديها كذلك قطعة أرض لتزرعها وتعيش منها.. فعلي كل فتاة أو إمرأة تشعر انه قد جاء الوقت لتحمل أن تبلغ مشرفتها لتتصرف .. مرت الأيام وذات ليلة عادت نارمر الي خيمتها صامتة متجهمة الوجه، سألتها ناميثا :- ماذا حدث ؟ أخبريني ، أجابت نارمر:- لم أشعر بالمهانة مثلما شعرت بها الليله .. – كيف ذلك ؟ – لقد أبلغت المشرفة في الصباح إنه قد جاء الوقت لإحمل ، وبعد غروب الشمس إستدعتني ودخلنا معاً إلي خيمة صغيرة بها فراش واحد ، ورأيت إمرأتين بملابس عسكرية واقفتين مع رجل برداء أزرق ، يبدو أنه من فرقة الواهبين ، وكان معصوب العينين ، وأشارت المشرفة للمرأتين للبدء ، فأرقدوني علي الفراش وأعصبا عيني وأمسكا بذراعي وقدمي ، وهما تدعوان الإله سبك أن يبارك ، وطلبت المشرفة من الرجل أن يبدأ مهمته ، فبدأ وإستمر بطريقة رتيبة ليس بها أي إحساس أو عاطفة ، وعندما إنتهي ، إنصرف الجميع وطلبت مني المشرفة العودة لخيمتي .. قالت لها ناميثا:- لا تحزني ، لقد رتبت هروبي من المعسكر ، فعندما أخرجونا من منازلنا ، خبأت في الملابس التي كنت أرتديها ما أملك من حلي ذهبية ، سأعطي بعضا منها للتجار الذين يجلبون الأغذية للمعسكر نظير إخفائنا تحت الأجولة الفارغة عند خروجهم من البوابات .. وهكذا هربت ناميثا ونارمر من شيدت وسافرتا علي الفور إلي أهناس ، وطلبتا مقابلة الفرعون أمنمحات ، وعندما أذن لهما بالدخول سجدتا له وقبلتا يديه ثم قصتا عليه ما يحدث في المملكة المتمردة شيدت من فظائع وما يعانيه شعبها من إضطهاد وقتل تعسفي للأبرياء ، مما حولها إلي عالم مظلم كئيب..قال لهما الفرعون : – لقد سمعت من جواسيسي الموجودين في شيدت مثل هذا الكلام ، وستساعدنا الآلهه في القريب العاجل ، علي استعادة هذه المقاطعة المتمردة إلي حضن الوطن الأم كيمت..بعد فترة وجيزة جهز الفرعون أمنمحات حمله عسكرية كبيرة ، وهاجم مدن شيدت وقتل فرعونها سبك نفرو وحاشيته ، وأفرج عن أفراد فرقتي الأمهات والواهبين ، وكان من بينهم أوناس وإبنته ميريت ، وإحتفل أمنمحات بهذا النصر ببناء مسله بإسمه في شيدت، دون عليها أحداث استسلامها وإخضاعها، وبحضور الجيش والشعب أمام المسلة ، هتف الجميع :
تحيا كيمت .. تحيا كيمت .. تحيا كيمت !!