بقلم: علي عبيد الهاملي
حيّرتنا تصريحات الإدارة الأميركية المتضاربة حول القضاء على تنظيم «داعش» الإرهابي، فهي مرة تقول إنها قد هزمته، ومرة تقول إنها لم تهزمه. الرئيس الأميركي دونالد ترامب أعلن في نهاية شهر فبراير الماضي، خلال توقُّف طائرته للتزود بالوقود في ألاسكا، أن القوات التي تدعمها الولايات المتحدة في سوريا استردَّت كل الأراضي التي كان يسيطر عليها تنظيم «داعش» هناك. وبعد أسبوع واحد فقط من تصريح الرئيس الأميركي، خرج علينا الجنرال جوزف فوتيل، قائد القوات الأميركية في الشرق الأوسط، ليعلن أن انتهاء المعركة ضد تنظيم داعش لا يزال بعيدا، وأن المتشددين لا يزالون غير تائبين، وأنهم مستعدون للعودة إلى القتال رغم القضاء على قاعدتهم في سوريا، ويؤكد أن مهمتهم لا تزال كما هي.
تصريحان متضاربان لمسؤولين أميركيين على مستوى عالٍ من الأهمية، يمثل أحدهما قمة السلطة السياسية في الدولة الأعظم في العالم اليوم، ويمثل الثاني قمة القوة العسكرية الأميركية العاملة في منطقة الشرق الأوسط الآن، فأي الرجلين المهمين نصدق؟ هل نصدق الرئيس الذي كان خارجا للتو من قمة فاشلة مع الرئيس الكوري الشمالي في العاصمة الفيتنامية هانوي، والذي ربما أراد أن يغطي على فشله في إقناع الرئيس الكوري بتدمير أسلحته النووية، أم نصدق قائد القوات الأميركية العاملة في الشرق الأوسط، الذي كان يدلي بأقواله أمام الكونغرس، ويعرف أن أي إخفاء للحقيقة سيتم اكتشافه؟
ربما لو ذهبنا إلى آخر ما قاله فوتيل لوجدناه الأقرب إلى الحقيقة، خاصة وهو يؤكد أن مقاتلي وعائلات تنظيم داعش الخارجين من آخر معقل لهم في شمال شرق سوريا، الباغوز، لا يزال معظمهم متطرفين وغير تائبين أو منكسرين، وأنه يجب مواصلة الهجوم ضد التنظيم الذي أصبح الآن مشتتا ومفككا بشكل كبير، ويقول إن ما نشهده اليوم ليس استسلاما لداعش كتنظيم، بل هو قرار محسوب للمتشددين كي يحافظوا على سلامة أسرهم وقدراتهم من خلال الإفادة من الفرص التي تؤمنها مخيمات اللاجئين، أو الاختباء في مناطق بعيدة بانتظار الوقت المناسب للتحرك مجددا.
«التطرف مشكلة جيل بأسره، وعلى المجتمع الدولي أن يقرر كيف سيتعامل مع آلاف المقاتلين وأفراد أسرهم المحتجزين حاليا لدى قوات سوريا الديموقراطية». هذا ما قاله فوتيل، مؤكدا أن المرحلة المقبلة من الصراع ستكون مع منظمة مفككة، يختبيء قادتها وعناصرها وراء الستار، لكن لا تزال تعمل بدافع أيديولوجي. ويضيف: «هذا سيبدو بشكل كبير مثل تمرد. سنشهد اعتداءات متدنية المستوى، سنشهد اغتيالات، سنشهد هجمات بعبوات ناسفة، سنشهد أشياء على شاكلة كمائن، فيما يحاولون الظهور من خلال ذلك». هذه هي الصورة التي يقدمها لنا قائد القوات العسكرية الأميركية العاملة في الشرق الأوسط لوضع التنظيم في المرحلة المقبلة، وهي صورة ليست كتلك التي يقدمها لنا الرئيس الأميركي، لكنها الأقرب إلى الواقع، والتي يجب التعامل معها على أنها حقيقة ما سيحدث خلال الفترة المقبلة من الصراع. هذا على اعتبار أننا قد استبعدنا منطق المؤامرة التي يعتقد كثيرون أن أطرافا كثيرة ضالعة فيها، وأنه ليس ثمة أبرياء خارجها، حتى لو ادعى الذين يتصنّعون البراءة أن ما يقال عنهم ليس أكثر من إشاعات مغرضة.
محاربة الفكرة إذن أهم من مطاردة فلول داعش المنهزمة ، أما التصريحات التي خرج علينا بها الرئيس الأميركي فقد تتغير تبعا للنجاحات التي تحققها الإدارة الأميركية والإخفاقات التي تمنى بها هنا وهناك، لكن الفكرة تظل هي الأكثر خطورة على عقول الأجيال القادمة، وليس على مؤسسي التنظيم الذين يكتنف تأسيسهم له غموض كبير، تماما مثلما يكتنفهم هم غموض أكبر، خاصة وأنهم يتحركون تحت سمع وبصر الأقمار الصناعية في السماء، وعلى مرأى من العيون التي تنتشر في كل مكان من الأرض. ومع هذا لا يعرف أحد مكانهم ولا مصيرهم، أو أن هناك من يعرف هذا المكان وذاك المصير، لكنه يغض البصر عنهم لأسباب يعرفها هو، كما يعرفها الراسخون في تحليل الأحداث وسبر أصول نشأة التنظيمات والجماعات الإرهابية، وأولو الألباب ينظرون ويتفكرون.
لا نريد أن نسترجع ما قالته مرشحة الرئاسة الأميركية السابقة هيلاري كلينتون عن نشأة تنظيم «القاعدة» في أفغانستان، ولا كيف دعمت الولايات المتحدة الأميركية هذا التنظيم، وشجعت على تسليح مؤسسيه بدعوى محاربة الاتحاد السوفيتي السابق تحت شعار الجهاد الإسلامي، وعندما تم إخراج السوفييت من أفغانستان تركت الذين أسسوه وشأنهم حتى تحول التنظيم إلى عدو للولايات المتحدة والغرب. كما أننا لا نريد أن نسترجع أقوال الرئيس الأميركي دونالد ترامب عندما وصف الرئيس السابق باراك أوباما، اثناء حملته الانتخابية، بأنه مؤسس تنظيم «داعش» الإرهابي، وقال أمام حشد من أنصاره في فلوريدا: «إنهم يقدرون الرئيس أوباما، إنه مؤسس تنظيم داعش». كما لا نريد أن نسترجع أقواله عندما هاجم منافسته الديمقراطية هيلاري كلينتون، ووصفها بأنها شريكة في تأسيس التنظيم، وأصر على أن أوباما وكلينتون هما أكثر اللاعبين قيمة بالنسبة للتنظيم. لا نريد أن نسترجع هذه الأقوال لأنها تغضب معارضي نظرية المؤامرة، ولكننا ندعو العارفين بالنظريات كي يبحثوا لنا في ملفاتهم عن تفسير لما يحدث ولا نجد له مبررا مقنعا يبدد حيرة المساكين أمثالنا.
«هزمنا داعش.. لم نهزمه» لعبة شطرنج نحن أحجارها، أما اللاعبون فهم أولئك المتصارعون علينا، ونحن صرعى كأننا أعجاز نخل خاوية.