بقلم: محمد منسي قنديل
مازالت أمواج البحر فاتحة أفواهها، لا ترحم من يلجئون إليها، تضيق بما في جوفه من جثث فتلفظها على شواطئ المتوسط، بحر الموت الذب نغير لونه حزنا وكمدا، ولكن هناك مصيدة أخرى غير البحر، عشرات المصريون الذين يهيمون على وجوههم في الصحراء، ليس فقط هربا من ضيق الحياة، ولكنه الملل من تكرار التعب لدرجة الانهاك، من عبث المحاولة لتغير من مالا يتغير، فالشقاء هو قدر المصريين منذ آلاف السنين، فالعيش على أرض ضيقة وشحيحة يستلزم دوام العمل، حيث لا حياة رخية، ولا عائد سريع، ولكن البعض منهم تعبت أرواحهم، اصابها القنوط من عدم القدرة على رؤية أي غد قادم، غد مختلف، تعبوا من كونهم احياء، وحول التعب هذا الوطن إلى سجن هائل، يضم الوادي والصحراء، وقد حسبنا ذات لحظة أن اسوار هذ السجن ستنهار مع أولى صيحات الثورة، ولكننا لم نحصل إلا على جزء مبتذل من الحرية، ولم يكن هناك بد من محاولة الفرار، الاندفاع نحو الموت.
ذات يوم كنت شاهدا على موتهم، على وجعهم الكظيم، لم أكن بعيد عن رائحة الأجساد التي تتعفن تحت الشمس، لم تغادر الرائحة انفي رغم مرور سنوات طويلة، حدث هذا عندما كنت طبيبا صغيرا اعمل في أحدى القرى في الصعيد، وخلف القرية يربض الجبل الغربي الذي يؤدي للصحراء، وكان الليل شديد الوطأة، تظل ذراته معلقة في الهواء طوال الليل، وينفذ ضوءه الفجر الواهن من خلال شبورة الصباح فتخرج جموع الفلاحين، رجال ونساء وأطفال وحيوانات، ابقار وجواميس وحمير، كلها مستسلمة لطقس الشقاء اليومي، دائما ما يثيرني هذا المشهد الأسطوري، لأنه هو الذي صنع التاريخ المصري وليس مواكب الملوك أو الجيوش، ولكن في ذلك اليوم كان هناك طرق حاد على باب الوحدة الصحية ينبهني، يفاجئني قدوم مأمور المركز في هذا الوقت المبكر، وجوده في حد ذاته يعني أن هناك مصيبة قد حدثت، يقول في إيجاز: سنخرج للصحراء، سنبحث عن “السلكاوية”، يشير إلى سيارة “البوكس” المتهالكة، يصفر وجه الحارس الليلي ويرفض الخروج معي، لم يكن أحد من الممرضين قد جاء، لا مفر من ان احضر حقيبتي سريعا وأركب بجانبه، ينظر إلينا أهالي القرية في توجس، يقفون على حافة الطرقات والحقول وأيديهم ملوثة بالطين، ليسوا مندهشين ولكن خائفين، يحتفظون بسرهم الخاص ويتحملون عاقبته، حتى الغجر ، رغم عدم حبهم لسيارات الشرطة، يخرجون من خيامهم على أطراف القرية ويتابعون سيرنا، يعلو الطريق وينخفض في حدة، أخشى السير سريعا بجانب المصارف المليئة بالأوساخ، سيكون موتا بائسا، يردد المأمور حانقا: اغبياء.. اغبياء لا يستفيدون، لم يكن يحدثني، كان فقط ينفث عن غضبه، وكان يجب أن نقطع بحر يوسف من مكان ما، نهر سريع الموج، شارك نبي الله يوسف في حفره بيديه، خط فاصل بين النضارة والجفاف، نترك خلفنا كل ما هو لامع وأخضر، وتبدو الصحراء في انتظارنا كقدر لا فكاك منه، ينهض رجل نحيف كان رابضا في نهاية “البوكس”، يتدلى برقبته حتى يصبح وجهه بجانب السائق ويأخذ في توجيهه، كان واحدا من البدو الذين يملكون سر الصحراء، وحده يرى “مدق الرمل” الذي تسعى فوقه القوافل، فلم يكن ظاهرا منه اي شيء أمامنا، تدور السيارة حول صخور مكورة، شظفتها الريح وجعلتها ملساء مثل بيض الرخ العملاق في قصص السندباد، تأملتها منبهرا ولكن المأمور يصرخ في: راقب الغربان، تطلعت للأعلى فوجدت السماء خالية، ولم ار سببا لفزعه، حتى أنه عاد للسباب من جديد، وبدأ الرمل يضرب مقدمة السيارة بعنف كأنه يريد أن يمنعنا من التقدم، اختنقت واحسست بالجفاف، واصبحت العربة ساخنة بحيث لا يمكن التشبث باي شيء، وتمتم أحد العساكر متبرما، ما فائدة الإسراع تحت شرد الظهيرة، سنصل متأخرين في كل الأحوال، رمقه المأمور بنظرة قاسية اسكتته، وظل الرمل يهمي علينا من كل جانب، وظهرت الغربان أخيرا في السماء، وصاح المأمور وهو يهتز في غضب: انظر كم هي ضخمة، السبب في ذلك هي جثثهم، كرهت الغربان، وكان نعيقها يجعل جسدي يقشعر، ربما لم يكن علي ان اشارك في رحلة العذاب هذه، ولكن الغربان تكاثرت في السماء، سدت عين الشمس، تلاطمت اجنحتها وتحول نعيقها إلى عويل خالص، وقال البدوي: أنهم في مكان ما حولنا، من هنا يبدأ المدق الذي يصل إلى حدود ليبيا، كنا نقف في بداية طريق الموت، وبدأت رائحة الهواء في التغير، اصبحت ثقيلة، مليئة بأنفاس الاحتضار، وهمس المأمور: سيظهرون الآن، البدو يخدعونهم دائما في المكان نفسه، توقف سائق السيارة فجأة، على بعد امتار من الطريق ظهرت الجثة الأولى، جسد يرتدي ملابس سوداء مسجى على الرمل الابيض، اولى علامات القسوة، اهتززت وأوشكت ان اصرخ متفجعا، ولكن المأمور حذرني .. لا تشفق عليهم ، دائما ما تتم خديعتهم بنفس الطريقة ولا احد منهم يتعلم، كان يبدو صلدا، صلادة من تعود على هذا الموت القاسي، انتظر السائق ان يأمره أحد بمواصلة السير، وعندما لم يحدث هذا بدأ في التقدم من تلقاء نفسة، توقف في موازاة الجثة وأدار وجهه للناحية الأخرى، طلب مني المأمور أن انزل، نزل وهو يعدل حلته، وأخذ يصيح في صخب دون داع، ربما ليداري فزعه، الفزع الذي نحسه جميعا، كانت الجثة لفلاح في منتصف العمر، ملامحه مفزوعة مغطاة بالرمال، فمه مفتوح، وذراعيه المتيبسة ممدودان لأعلى، تستنجدان دون جدوى، لم تكن له عينين، ربما الغربان هي السبب، وصاح المأمور.. هذا هو الحال دائما، يوهمهم البدو أنهم سيعبرون بهم السلك الفاصل للحدود، ثم يسلبونهم كل ما معهم ويتركونهم وسط الصحراء، لا أحد يستفيد من تجربة الذين سبقوه، أجل.. الموتى يحفظون الأسرار، تبدأ الجثث في التناثر من حولنا، افواه فاغرة، بلا عيون، وأحيانا بلا أصابع ولا أطراف، الضباع أيضا شاركت في هذه الوليمة، عشرون جثة وآلاف من اسراب الذباب الطنان، اضع منديلا ا على انفي، ثم اغطي به عيوني، ابكي من شدة الحرقة بداخلي، ابكي لأحلامهم الضائعة ولقسوة الغدر والخيانة التي تعرضوا لها وللأهل الذين يجلسون في انتظارهم وللأمل في لقمة عيش منتظمة وللوادي الشحيح الذي لا يعطي إلا إذا زهقت أرواحنا، يجلس المأمور على الأرض ويخلع غطاء رأسه، ينظر إلى وانا عاجز عن التوقف عن البكاء، لا يسخر مني، ويهتف في رجاله، احملوهم إلى “البوكس”، اقرءوا الفاتحة اولا، نقرأ جميعا الفاتحة من أجل هذه الأرواح الرخيصة، يخيل إلى أنني اعرف بعضا من وجوههم، جاءوا إلي في العيادة الصباحية، يطلبون مزيج “الراوند” وبعض اقراص الفيتامين ، ظنا منهم أنه سوف يغنيهم عن تناول الطعام، أنهم صامتون الآن، لا طلبات لهم، توشك أعضاؤهم على التفكك من بعضها البعض، يأمرهم المأمور: احملوهم برفق، يكفي ما عانوه، ويداري وجهه مني، كان الأمر فوق احتمالنا جميعا، وغابت الشمس فجأة، فبدا الرمل رماديا وحزينا، لو بحثنا أكثر لوجدنا المزيد من الجثث، ولكن كان لابد من العودة، تصاحبنا رائحة العفونة، وسوف تبقى في أنوفنا جميعا لنهاية العمر.