بقلم / مسعود معلوف
سفير متقاعد
استفاق ذات يوم الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب في أواخر العام 2018 ونشر في الصباح الباكرعلى صفحته في منصة تويتر تغريدة أعلن فيها أنه قرر سحب القوات العسكرية الأميركية الموجودة في سوريا. هذا القرار الرئاسي المفاجئ أثار ردات فعل كثيرة كان أهمها استقالة وزير الدفاع آنذاك جايمس ماتيس كونه لم يتم استشارته قبل اتخاذ مثل هذا القرار العسكري الهام، كما تعرض الرئيس ترامب في حينه لكثير من الإنتقادات.
تم معالجة الوضع في تلك الأثناء عبر تعيين وزير دفاع جديد هو مارك إسبر – الذي هو من أصول لبنانية – وسحب بعض القوات العسكرية الأميركية والإحتفاظ في سوريا بقاعدة تضم 900 جندي أميركي لمتابعة عمليات “محاربة داعش”.
بعد مرور ست سنوات على هذا الحدث، نشرت المجلة الأميركية “فورين فوليسي” تقريراً مفاده أن وزارة الدفاع الأميركية تدرس الآن، بالإشتراك مع وزارة الخارجية وبعض كبار المسؤولين في البيت الأبيض، مسألة إنسحاب هذه القوات العسكرية الأميركية المتبقية من سوريا.
أول ما يتبادر الى الذهن عند قراءة هذا التقرير هو ان الرئيس جو بايدن لن يتخذ بصورة عفوية ومتسرعة مثل هذا القرار الهام للولايات المتحدة وللمنطقة على غرار ما فعله سلفه الرئيس ترامب. لذلك فهو كلف الإدارات الرسمية المعنية بدراسة انعكاسات هذا الإنسحاب، سواء في الداخل الأميركي أو في منطقة الشرق الأوسط بصورة عامة. ولا بد من التذكير هنا، أن المعركة الإنتخابية الرئاسية والتشريعية في الولايات المتحدة قد بدأت، ومن شبه المؤكد أن الرئيس بايدن، الذي أعلن ترشحه لولاية ثانية، يهمه كثيرا معرفة ردات الفعل لمثل هذا القرار على الناخب الأميركي، وأيضاً داخل الكونغرس.
هنالك أمور كثيرة ينبغي أخذها بعين الإعتبار ودراستها بروية قبل اتخاذ مثل هذا القرار من قبل الإدارة الأميركية إذ أن أحد أهداف الوجود العسكري الأميركي في سوريا هو محاربة داعش من خلال “التحالف الدولي لمحاربة داعش” الذي يضم حوالى ثمانين دولة، وعبر التحالف مع قوات سوريا الديمقراطية (قسد) التي هي بمعظمها من الأكراد السوريين، ونذكر جيدا موقف هذه القوات الغاضب عند إعلان ترامب قراره وعند انسحاب قسم من القوات الأميركية في ذلك الوقت.
الرئيس بايدن، بعد تسلمه الرئاسة في مطلع عام 2020، أكد استمرار التحالف الأميركي مع قوات سوريا الديمقراطية وتقديم التدريبات العسكرية اللازمة لهذه القوات، ولذلك فإنه من الضروري التنسيق مع هذه القوات من قبل إدارة بايدن قبل اتخاذ أي قرار بالإنسحاب والإعلان عنه. ومن المفيد التوضيح هنا أنه، في المنطقة التي تسيطر عليها قسد، يوجد مخيمات وسجون تضم آلاف المقاتلين الدواعش كما يوجد مخيم يضم حوالى خمسين ألفا من النساء والأطفال من عائلات الدواعش، وهي كلها تحت سيطرة ومراقبة قوات سوريا الديمقراطية، فمن الضروري التأكد من أن قسد ستتمكن من الإستمرار في ضبط المراقبة على هذه السجون والمخيمات في حال حصول انسحاب أميركي، وإلا ستعود داعش أقوى وأخطر مما كانت سابقا.
تشير هنا مجلة “فورين بوليسي” في تقريرها المذكور أعلاه الى احتمال قيام الإدارة الإميركية بتقريب وجهات النظر بين الحكومة السورية وقوات سوريا الديمقراطية قبل الإنسحاب، ولكن لا بد من التوضيح أن هذا الأمر صعب للغاية نظرا للعداء المستشري بين هذين الفريقين والإختلاف الجذري في أهداف كل منهما، بالإضافة الى انعدام وجود ثقة بين النظام السوري والحكومة الأميركية، كما أن تركيا لن تنظر بعين الرضا في حال حصول مثل هذا التقارب ولن تبقى مكتوفة الأيدي حياله.
على صعيد آخر، تبين في الآونة الأخيرة تمكن قوات داعش من استعادة بعض قوتها ونشاطاتها الإرهابية، فهل ستستطيع قوات سوريا الديمقراطية وحدها الوقوف في وجه التحركات العدائية الداعشية المتزايدة بعد الإنسحاب الأميركي اذا تم؟ هذا أيضا أمر هام جدا لا بد للمعنيين الأميركيين الذين يتداولون فيما بينهم حول الإنسحاب من أخذه بالإعتبار وبجدية تامة.
أمر آخر هام للغاية ينبغي على إدارة الرئيس بايدن دراسته بروية وبكل تفاصيله ألا وهو كيفية تنفيذ الإنسحاب من سوريا في حال تم اتخاذ هذا القرار. فالعالم بأسره شاهد مغادرة القوات العسكرية الأميركية أفغانستان تنفيذا للإتفاق الذي كان تم التوصل اليه بين طالبان وإدارة الرئيس ترامب بضرورة خروج جميع الجنود الأميركيين من أفغانستان قبل شهر أيار/مايو 2021، والطريقة التي خرجت بها القوات العسكرية الأميركية من أفغانستان كانت بالفعل مذلة، إذ تمكن مقاتلو طالبان من الإقتراب من إحدى الطائرات الأميركية قبيل إقلاعها وقاموا بعملية تفجير بين الجنود قبل صعودهم الى الطائرة وقتلوا عددا منهم، كما رأينا مئات المواطنين الأفغان الذين كانوا يتعاونون مع الجيش الأميركي يركضون على أرض المطار وراء الطائرات الأميركية المغادرة ويحاولون التمسك بها من الخارج والتسلق عليها للهرب والخروج من بلدهم خشية انتقام مقاتلي طالبان منهم لتعاونهم مع المحتل الأميركي.
ما زال الرئيس بايدن يتعرض لانتقادات لاذعة لعدم قيام إدارته بتنظيم خروج هادئ ولائق للجنود الأميركيين من أفغانستان، ولذلك فإن الإدارة الأميركية ستدرس بعناية فائقة وبأدق التفاصيل كيفية انسحاب القوات العسكرية من سوريا كي لا يتردد مشهد أفغانستان في حال تقرر الإنسحاب.
ومما يلفت النظر في موضوع دراسة الإنسحاب الأميركي من سوريا هو التوقيت، إذ أن حرب إسرائيل على قطاع غزة ما زالت على أشدها، ورئيس وزراء إسرائيل نتنياهو يحاول توسيع رقعة الصراع في المنطقة من جهة كي يبقى في الحكم أطول مدة ممكنة لأن انتهاء الحرب ستؤدي الى خروجه من رئاسة الحكومة، ومن جهة ثانية ليورط الولايات المتحدة في حرب في المنطقة من شأنها ان تؤثر سلبا على حملة الرئيس بايدن الإنتخابية وتساعد ترامب على العودة الى البيت الأبيض إذ أن ترامب أثناء رئاسته تجاهل حقوق الفلسطينيين بالكامل وأعطى كل شيء لإسرائيل، بينما بايدن يؤيد حل الدولتين عبر إقامة دولة فلسطينية، وهو على خلاف مع نتنياهو في طريقة تنفيذ العمليات العسكرية في غزة وفي مستقبل الوضع فيها بعد انتهاء الحرب. لذلك قد يكون تسريب موضوع احتمال الإنسحاب من سوريا رسالة الى نتنياهو بأن الولايات المتحدة لا تريد مزيدا من الإنغماس والتدخل العسكري في الشرق الأوسط.
مهما يكن من أمر، يمكن القول بكل ثقة أن قرار الإنسحاب من سوريا لن يصدر في وقت قريب لان دراسته ستتطلب وقتا واتصالات حثيثة مع كل الجهات المعنية، أي كما أشرنا سابقا قوات سوريا الديمقراطية والحكومة التركية وكذلك ينبغي دراسة انعكاس الخروج الأميركي من سوريا على الوجود العسكري الأميركي في العراق الذي يتعرض حاليا لبعض الضغوط، كما ينبغي دراسة ارتدادات مثل هذا القرار في الداخل الأميركي خاصة بالنسبة الى الإنتخابات القادمة.
لا أحد يعرف، في الوقت الحاضر، إن كان احتمال خروج الولايات المتحدة من سوريا أمراً جدياً أو أنه فقط “بالون اختبار” لمعرفة ما سيلاقيه مثل هذا القرار من ردات فعل على الأرض يتم في ضوئها اتخاذ الموقف المناسب بالإنسحاب الفعلي أو بالبقاء الى حين ترى الإدارة الأميركية أن ظروف الإنسحاب أصبحت ملائمة من جميع النواحي.