بقلم: علي عبيد
حدث هذا منذ سنوات، في وقت لم يكن فيه العرب قد عرفوا ربيعا سوى ربيع الله الذي كله خير، أيام الزمن الجميل الذي أصبحنا نتمنى عودته، رغم كل ما كان يشوبه من عيوب، يوم أن كان العرب يحلمون بزمن أجمل لم يتحقق لهم منه شئ حتى الآن. أيامها استضافت ندوة الثقافة والعلوم رئيس هيئة استثمارية في دولة عربية عبثت بها رياح ربيع الثورات المزعوم بعد ذلك، لكنها لم تستطع أن تغرقها في الفوضى كما فعلت بغيرها، وكان موضوع المحاضرة قوانين الاستثمار في تلك الدولة، ودور الهيئة في تقديم بلدها كمركز للأعمال، من خلال الترويج للاستثمار، ودعم تقديم خدمات ميسرة ومطورة للمستثمرين، في إطار بيئة مهيئة للأعمال، وسياسات داعمة للاستثمار. وقد حرصت الندوة على دعوة عدد من رجال الأعمال، كون الموضوع يتعلق بقطاع استثمار الأموال، الذي هو من اختصاصهم.
بدأ المحاضر كلامه بشرح ميزات الاستثمار في بلده، والفوائد التي يمكن أن تعود على المستثمرين هناك، وتحدّث عن الإجراءات التي يجب أن يتبعها المستثمرون لتوظيف أموالهم في مشاريع تعود عليهم بالربح، وعلى البلد بالفائدة. وما أن انتهى من إلقاء محاضرته حتى طلب الكلمة أحد كبار رجال الأعمال من الحضور، كانت له تجربة يبدو أنها غير مشجعة في بلد المحاضر، ليتوجه إليه بالسؤال: وماذا فعلتم لتشجيع الاستثمار في بلدكم؟ أجاب المحاضر بعفوية: لقد قمنا بتغيير كل القوانين القديمة… وقبل أن يكمل المحاضر حديثه قاطعه رجل الأعمال قائلا: وهل غيرتم البشر؟! هنا خيم الصمت على القاعة، وبدا الحرج على وجه الضيف الذي فاجأه السؤال، ليذهب الحديث بعد ذلك في اتجاه آخر، يبدو أن المحاضر لم يعدّ له جيدا، فحاول تفادي الحرج بطريقة دبلوماسية.
الشاهد في الموقف الذي نتذكره، كلما سمعنا حديثا عن تحديث القوانين، أن القوانين وحدها، رغم أهميتها، لا تحدث التغيير في المجتمعات التي تسعى إلى إحداث نقلة في حياتها، ولكن الذين يحدثون التغيير هم البشر الذين يطبقون هذه القوانين ويتعاملون معها، ويكيفون أنفسهم مع كل تحديث يجري عليها، بدلا من أن يلووا عنقها كي تكيف هي نفسها معهم. فالقوانين قد تكون رائعة ومثالية، لكن هذا لا يعني بالضرورة أن الذين يطبقونها رائعون ومثاليون كتلك القوانين. هنا تكمن العلة التي تعاني منها بلدان العالم على وجه العموم، والبلدان العربية على وجه الخصوص، لذلك فإن تغيير تعامل البشر مع القوانين أهم من تغيير القوانين نفسها وتحديثها. وهذا ما رمى إليه رجل الأعمال، في تلك المحاضرة، عندما وجه سؤاله للمحاضر الضيف الذي أصبح بعد ذلك وزيرا في بلده، ثم حوكم في قضية بعد خروجه من الوزارة بعام تقريبا، وحكم عليه بالسجن 8 سنوات، قضى منها في السجن 25 شهرا، قبل أن تقرر محكمة النقض براءته، ليخرج من السجن، رافضا الحديث عمن تسبب في سجنه، قائلا إن الحقيقة ليست دائما مفيدة!
الذين يعتقدون أن تغيير البشر ضرب من المستحيل مخطئون، رغم حالة اليأس التي تكتنف عالمنا العربي، والفوضى التي تجتاح الكثير من بلدانه، فتغيير البشر ممكن، شريطة أن تتوفر قيادة واعية ومخلصة، تقود البلد لصالح أبنائه، وليس لمصالحها الخاصة والضيقة، فهذه دولة الإمارات العربية المتحدة، تقدم نموذجا فريدا في التنمية، وتفتح أبوابها للمستثمرين دون عوائق أو تعقيدات، وتطوّع القوانين كي تجعل من البلد بيئة مستقطبة للمستثمرين لا طاردة لهم، فالقانون إذا لم تتوفر إرادة حقيقية لتطبيقه يبقى عاجزا عن تحقيق أهدافه، مهما كان مثاليا ومستكملا لكل الجوانب، والإرادة الحقيقية تستطيع تحقيق الأهداف النبيلة حتى لو كانت القوانين غير مكتملة، لأن الإرادة هي التي تصنع القوانين، وليست القوانين التي تصنع الإرادة.
هنا يبرز مصطلحان مهمان في علم الإدارة؛ هما إرادة التغيير، وإدارة التغيير. أما إرادة التغيير فهي تنبع من القيادة التي يقع عليها الدور الأكبر في إحداث التغيير الإيجابي المطلوب لتطوير المجتمعات البشرية، وهو التغيير الذي رمى إليه رجل الأعمال في مداخلته تلك، دون أن يقصد النيل من مكانة شعب البلد الشقيق الذي قَدِم منه محاضر تلك الأمسية، وهو شعب عظيم ذو حضارة ممتدة عبر التاريخ، لكنه يعاني مشاكل إدارية عميقة، ثم يأتي بعد ذلك دور الشعب في الاقتناع بهذا التغيير، والتعاون مع قيادته لإحداث النقلة المطلوبة في سلوكه وتعامله مع القوانين. أما إدارة التغيير التي تعتبر واحدة من قواعد علم الإدارة، فيبرز فيها دور القائد في التأثير على الأفراد المطلوب منهم إحداث التغيير، وهنا يفرّق خبراء الإدارة بين القيادة التي تعتمد على الإقناع، وتستمد قوتها من قوة شخصية القائد وقدراته الإدارية، وبين القيادة القائمة على الاستبداد، وتستمد قوتها من السلطة المطلقة للقائد.
أما الاستبداد فقد عانت منه الشعوب العربية عقودا من الزمن الذي نعيش امتداده، بدأت بعصر الانقلابات التي وعدت الشعوب بحقبة وردية، سقف الحريات فيها مفتوح، والعدالة فيها مطلقة، وانتهت إلى ديكتاتوريات ثارت عليها الشعوب مطالبة برؤوس حكامها، فسحقت من استطاعت الوصول إليه منهم، واختار من لم تصل إليه يد الشعب أن يهدم المعبد على رؤوس الجميع، فتحولت تلك البلدان إلى ساحات للحروب الصغيرة والمؤامرات الكبيرة، لذلك فإن الإقناع هو الطريق الوحيد لتغيير البشر، هذا التغيير الذي هو أساس كل عملية بناء أو تنمية.