بقلم: محمد منسي قنديل
منذ اربع أو خمس سنوات وجدت خريطة معلقة على جدار غرفة ابني، خريطة للعالم باللونين الأبيض والأسود لكنه ليس العالم الذي نعرفه، مكون فقط من قارتين مقسمة إلى سبع ممالك كما اخبرني ابني فيما بعد، كانت الخريطة تأكيدا على أن الأمر يبدو حقيقيا، وأن عالم الخيال قد رسم حدوده على ارض الواقع، وكانت هذه هي المرة الاولى التي اسمع بها باسم مسلسل Game of Thrones أو صراع العروش الذي يتابعه مليارات البشر حول العالم منذ سنوات، وحصل ابني على الخريطة كهدية ترسلها شركات الدعاية، وحرص بدوره أن تظل امامه عندما تحين لحظة اذاعة المسلسل، وهكذا دخلت معه في ادمان «صراع العروش» ومشاهدة كل حلقاته القديمة أكثر من مرة، ونحن الآن في انتظار الحلقة السابعة من الموسم السابع، أي اننا نتابعه من سبع سنوات تقريبا، ونعيش مع احداثه لمدة عشر حلقات، واحدة كل اسبوع، ثم نبقي في انتظاره بعد ذلك طوال العام.
أنه مجرد مسلسل خيالي يدور في ارض خياليه ولكنه اكثر ابهارا من الحقيقة، يجسد الصراعات التي لا تريد أن تهدأ في عالمنا من خلال صراع الممالك السبع حول العرش الحديدي، المكون من رماح متداخلة، وقد علقت عليه ملكة انجلترا حين زارت موقع التصوير في اسكتلندا:» هذا هو العرش الوحيد الذي لا استطيع الجلوس عليه»، وكالعادة هناك ملك غير شرعي يجلس عليه، ويتصارع حوله اكثر من مطالب، جيوش تعادي بعضها البعض دون اصدقاء، وليس هذا غريبا على الجنس البشري الذي لم يسد السلام بين اجناسه إلا لمدة 150 عاما فقط، صراع واقعي رغم مادته التي تعتمد على الخيال، حيث لا يوجد آلهة ولا أنبياء، يدور بدافع من غريزة الحياة، عدوهم الرئيسي هو الموت، وهم يعرفون أنه سينتصر عليهم في نهاية الأمر ولكن يجب أن يحاربوه.
المسلسل مأخوذ عن سلسلة روائية من سبعة أجزاء بعنوان «اغنية الثلج والدم» للكاتب جورج. ر. مارتن، بني وقائعها على حرب فعلية حدثت في انجلترا في القرن الخامس عشر، واحدة من اطول الحروب التي شهدها التاريخ واستمرت لمدة ثلاثين عاما دون أن تحسم حول من هو احق بعرش انجلترا، اطلق عليها شكسبير في مسرحياته حرب الوردتين، وتنافست فيها عائلتان من النبلاء ملاك الاقطاعيات الكبرى، وكل واحده منها تمتلك جيشها الخاص، عائلة لانكستر وشعارها الوردة الحمراء، وعائلة يورك وشعارها الوردة البيضاء، كل اسرة تعتقد أنها الوريث الشرعي للملك هنري الاول الذي مات دون أن يخلف وريثا ذكرا، اشترك فيها كل النبلاء دون نبل، دوقات وبارونات وجنرالات وفرسان، والعديد من عبيد ملاك الارض، وارتال من الجنود المرتزقة، يرتدون الدروع الحديدية ويعيثون فسادا في القرى، ونساء طامحات، يقمن بالتحريض من خلف الستار ومن فوق الآسرة، يحبكن المؤامرات ويستغللن اجسادهن كلما أمكن، وقفزت واحدة منهن على العرش لتصبح ملكة لفترة من الزمن، حربا لايعرف أحد نهايتها، حدثت فيها كل انواع الخيانات وانقلاب الاصدقاء والاستعانة بالغزاة الاجانب، ولكنها انتهت أخيرا بانتصار اسرة لانكستر، وازيلت اسرة يورك من الحكم، وتزوج الملك هنري السابع آخر الملوك المتصارعين من أحدى سيدات البيت المنافس.
تحولت سباعية «اغنية من ثلج ونار» إلى صراع العروش كما ظهرت على شاشة التلفزيون، واشترط ر. مارتن أن يقوم بنفسه بكتابة الحلقة الأولى في كل موسم ليرسم الخط الاساسي لبقية المؤلفين، بالإضافة إلى توليه مركز المنتج المنفذ ليضمن توفر الامكانيات الفنية، وعندما اجتمع معه المسئولين عن شركة الانتاج سألوه سؤالا واحدا: ماهو مصير جون سنو؟ وعندما عرفوا الجواب قاموا على الفور بتوقيع العقد، وحتى الآن فنحن لا نعرف الجواب، لأن المسلسل لم يحسم بعد، كما أن الجزء السابع من الرواية لم يتم تأليفه، فهو ليس إلا مجرد افكار في ذهن المؤلف، ولأن الانتاج التلفزيوني لا يحتمل التأجيل فقد عقد المؤلف اجتماعا مع بقية كتاب المسلسل وشرح لهم افكاره وقاموا هم بكتابة الحلقات على هذا الأساس، ولكن بعد ذلك هل سيستطيع المؤلف أن يجلس ليكتب هذا الجزء السابع بعد أن افرغ شحنته وكشف اوراق لعبته.. لا أعتقد!!
جون سنو هو شخصية محورية في اجزاء الرواية ويربط بينها بطرف خفي، أنه الابن غير الشرعي لحاكم الشمال، المملكة التي تغطيها الثلوج دائما، مكروه من زوجة الملك التي تساهم في ابعاده عن بيته وعن بقية اخواته الشرعيين، ليذهب للدفاع عن الجزء الاصعب في المملكة، السور الذي يفصل بينهم وبين جيوش الموتى، يذكرنا بالسور الذي اقامته اسرائيل لتحاصر به غزة، الفارق أن المحاصرين على ارض الواقع ليسوا موتى ولكنهم اصحاب الأرض والحق والتاريخ ولكنهم مغلوبين على امرهم، من على حافة السور يراقب جون سنو عالم الرعب المخفي وسط الثلوج، ولكن العالم من خلفه لا يقل رعبا، فأسرته كلها تتعرض للذبح، ولا يبقى إلا هو واختين وأخ كسيح، والرواية مثلها كالتاريخ مليئة بالمذابح، ويخالف المؤلف دائما كل التوقعات، فلا يوجد عزيز، كل الشخصيات عنده قابلة للموت، لأن هذه طبيعة الأمور في عالم لا تتوقف فيه المعارك، وهو ينتقد كل الروايات التقليدية التي تحتفظ بشخصياتها من أول الرواية إلى آخرها وتبعد عنهم مصيرهم المحتوم، ويساعده هذا على أن يدخل إلى رواياته باستمرار شخصيات جديدة نضره تساعده في المضي بعملية السرد.
تمتلك العرش الحديدي سيرسي الملكة الداهية، القاسية الجمال، نقطة ضعفها هي حبها للسلطة وشهوتها لأخيها، وهي تنجب منه اولادا محكومين بلعنة الموت المبكر، ولا تكره شيئا بقدر كراهيتها لأخيها القزم الذي تعتبره أحد اخطاء الطبيعة وأنه سبب كل المصائب التي تحل بها، وبعد أحداث كثيرة يتبلور الصراع بينها وبين امرأة أخرى تقف في مواجهتها هي دينريس آخر سلالة الملوك الشرعيين، وهي تملك سلاحا ضاريا هو التنانين، اشبه بالطائرات التي تحرق اليوم عالمنا بالنابالم، مبالغة أخرى في الخيال تبدو منطقية وسط الإطار الخيالي للمسلسل.
التفاصيل كثيرة ومليئة بالمتعة، يساهم في تجسيدها التصوير والاستخدام الجيد للجرافيك، ولكن قبل النهاية وجب ان نحيي الاستاذ هشام فهمي الذي تصدى لترجمة هذه السلسلة للعربية في عمل ممتاز، وقد خاض معركة طويلة للحصول على حقوق الترجمة، وقام بالفعل بنشر الجزء الأول منه منذ عامين واتمنى أن يكون قد استكمل مشروعه وترجم بقية الاجزاء.