بقلم: شريف رفعت
أجلس في صالة الانتظار الكبيرة في قسم السرطان بالمستشفى الجامعي الجديد بمونتريال أنتظر دوري لمقابلة طبيبي المعالج، أنظر حولي متطلعا لتمضية الوقت، صالة الانتظار أنيقة، جيدة الإضاءة، حديثة الأثاث و مزدحمة. أستغرب من عدد المرضى، كل هؤلاء عندهم أورام خبيثة. بجواري إمرأة تبدو في الثلاثينيات واضح أنها هي أيضا تنتظر دورها مع طبيبها، أول ما يلفت النظر فيها شعرها الأشقر القصير للغاية مثل صبي حلق شعره حديثا، عيناها زرقاوتان جميلتان، تجلس تتجاذب أطراف الحديث مع إمرأة أخرى بجوارها، أتطلع لوجهها خفية كي لا تلاحظ حملقتي، جميلة هي جمال هاديء، يرتسم على ملامحها تعبير غريب أخذ مني بعض الوقت لتفسيره، ملامح تسليم بأمر واقع قاسي مجرم معه تعبير عن الصمود، كأنها تقول للعالم «هات ما عندك فبطريقة أو بأخرى سأتحمله و أتعامل معه بشجاعة»، يختلط بذلك ملامح هلع خفي، ملامح وجهها جديرة بالمسيحيين الأوائل لحظة قيادة الرومان لهم إلى حتفهم على أنياب الوحوش المفترسة. حولت نظري عنها و أخذت أنظر لباقي المنتظرين في الصالة، اتضح لي أن التعبيرات على ملامح جارتي سائدة بين أغلب النساء المنتظرات، لا أدري لماذا لم ألاحظ هذه الظاهرة في زياراتي السابقة، شعرت أني وسط كوليسيوم مليء بشهيدات المسيحيات الأوائل يقادون إلى حتفهن، نظرت إلى الرجال المنتظرين، لم يبد على وجوههم تعبير مماثل، قد يكون ذلك بسبب غبائهم ـ و أنا واحد منهم ـ فلا يدركون بعد مصيرهم، أو قد يكون بسبب تفاؤل لا أدري مصدره، أم هو كبرياء ـ لا يتناسب مع واقعهم البائس ـ فلا يريدون أن تفصح ملامحهم عن حقيقة شعورهم تجاه مرضهم. فكرت في نفسي ترى ما هي التعبيرات على وجهي أنا؟ أنا الذي لا أكف عن الفلسفة و تقييم الغير. نظرت إلى إنعكاس صورتي في زجاج النافذة المجاور لي، كان على وجهي قناع متقن من (الطناش)، طناش جميل أحاول أن أخفي به قلقي و بؤسي.
مكبر الصوت يذيع أسماء المرضى و إلى أي حجرة يتوجهون كي يقابلوا أطبائهم، تنظر لي المرأة التي بجواري و تقول:
ـ حسنا، الانتظار هنا لن يكون طويلا. تخيل الإسبوع الماضي توجهت بابني إلى طوارئ المستشفى المجاورة لنا، إضطررنا للإنتظار ست ساعات كي يراه الطبيب.
هززت رأسي موافقا ثم سألتها:
ـ هل كان الأمر خطيرا مع ابنك؟
ـ وقع أثناء اللعب فأصيب بشرخ في عظمة الذراع، قام الطبيب بتجبيس ذراعه.
لاحظت رغبتها في الحديث فقررت التجاوب معها، سألتها:
ـ هل هو ابنك الوحيد؟
ـ لا عندي ابنة في الثامنة، ابني في العاشرة، و أنت؟
ـ عندي ابنين، كبرا و غادرا المنزل، أنا أعيش بمفردي و الحمد لله.
ابتسمت و أشارت لنفسها ذاكرة اسمها:
ـ فاني، و أنت؟
ذكرت لها اسمي، كانت المرأة التي بجوارها تتابع حديثنا، أشارت إليها فاني و قالت:
ـ أورورا، جارتي و صديقتي، بالمصادفة نحن الاثنين موعدنا مع طبيبينا المعالجين في نفس الوقت تقريبا فحضرنا معا.
حاولت أن أجد شيئا أقوله لمواصلة الحديث، قلت:
ـ جارتان و صديقتان تعانيان من نفس المرض، مفروض أن تجدا شيئا أفضل تشتركان فيه.
لا أدري إذا كانت ملاحظتي تخلو من اللياقة، أورورا قالت كأنها تصلح معلوماتي:
ـ ليس بالضبط نفس المرض، أنا أصابني في الثدي و فاني في الرحم. و أنت؟
أجبتها على سؤالها و إن كنت قد تعجبت من كلامها عن المرض، و جرأتها في سؤالي كأنها تتحدث عن طراز السيارات التي نملكها.
سألتني فاني:
ـ هل هذه أول زيارة لك هنا؟
ـ لا خلال السنتين الماضيتين أحضر كل ستة أشهر للمتابعة.
ـ و هل الأمور تسير على ما يرام؟
رددت بابتسامة ساخرة:
ـ صدقيني لا أدري.
هزت رأسها متفهمة. سألتها:
ـ و أنتِ؟
ـ أنا زبونة دائمة هنا.
ثم مشيرة لشعرها القصير:
ـ بعد إستئصال الرحم عاد المرض فأخذت العلاج الكيماوي، جلسة كل إسبوع لمدة شهرين، معها أعراض جانبية غير مريحة إطلاقا. في الواقع غير مريحة وصف غير دقيق لعذابات هذا العلاج.
قطع حديثنا النداء على أورورا لترى طبيبها. واصلنا الحديث تعمدت أن أنأى به عن المرض و العلاج، كان عند فاني رغبة و حماس للكلام عن أي موضوع. خرجت صديقتها من عند الطبيب و قالت لها:
ـ سأنتظرك حتى نعود سويا.
فهمت أن فاني حضرت مع صديقتها في عربة الصديقة، عرَضْتُ عليها أن أوصلها بعد إنتهائنا من مقابلة طبيبينا، وافقت فاني شاكرة، علقت أورورا مداعبة قبل انصرافها:
ـ أنتما الاثنين لا تفعلا شيئا صبيانيا متهورا.
بعد مقابلتينا مع طبيبينا استقللنا سيارتي، سألتها عن نتيجة مقابلتها للطبيب، ثم واصلنا حديثا وديا في مختلف الموضوعات، تأكد لي أن المرأة في حاجة لأن تتحدث و تسمع، وصلنا لمنزلها، شكرتني فقلت لها مجاملا:
ـ لقد استمتعت بصحبتك، أخيرا هناك شيء جميل في هذه المستشفى.
ابتسمت ابتسامة عذبة شاكرة، تجرأت و قلت لها:
ـ ليتنا نكرر هذا اللقاء إذا كان هذا لا يضايقكِ.
ـ إطلاقا، أنا أيضا استمتعت بصحبتك.
تبادلنا أرقام هاتفينا و افترقنا على وعد بلقاء آخر.
فكرت في الاتصال بفاني لكني أحجمت، لم أرغب في فرض نفسي عليها و قررت الانتظار. بعد إسبوع اتصلت هي بي، تواعدنا على اللقاء في أحد مشارب القهوة، تكررت لقاءاتنا عدة مرات، تأكد لي إنها إنسانة جميلة بالإضافة لكونها إمرأة جميلة رغم مرضها. تعمدت ألا أذكر مرضها أثناء لقاءاتنا، كانت هي من سألتني عن أخبار مرضي فأجبتها باختصار، تحدثت هي بإسهاب عن تجربتها مع المرض اللعين، حدثتني عن اكتشافه في رحمها منذ ثلاث سنوات، عن الجراحة التي أجرتها لإستئصال الرحم، كيف أنه بعد الجراحة بسنة عادت الخلايا السرطانية لمهاجمة جسدها مرة أخرى، استدعى ذلك علاج بالأشعة لمدة ثلاثين يوما متواصلة، ظنت بعدها أن المرض قد قضي عليه، لكن المرض عاد من حوالي ستة أشهر مما اضطرها لتلقي العلاج الكيماوي الأليم بأعراضه الجانبية المؤلمة. استمعت لها متعاطفا، قلت لها كلمات مواساة صادقة. و حولت مجرى الحديث لمواضيع أخف وطأة.
عموما كنت أستمتع بلقاءاتي معها و في نفس الوقت أسأل نفسي عن طبيعة علاقتنا، أكيد هي صداقة مبنية على المعاناة المشتركة، و إن كنت لا أدري هل المعاناة المشتركة تصلح لأن تكون أساسا للصداقة؟ ينتابني أيضا شعور بأني أساعدها و أحنو عليها بلقاءاتنا هذه و باستماعي لحديثها بحلوه و مره. لاحظت أنها تتكلم في كثير من المواضيع عن حياتها لكنها لم تذكر أبدا زوجها حتى شككت أنها تعيش بمفردها مع طفليها.
حدثتني فاني هاتفيا طالبة رؤيتي، قدت سيارتي متوجها لمشرب القهوة المعتاد، أحد أيام شهر نوفمبر، جو خريفي غائم، المدينة تستعد لإستقبال الشتاء، دعوت الله أن يكون شتاء رحيما برودته محتملة و جليده قليل. وجدت فاني ضائعة محطمة، أخبرتني أنها زارت طبيبها المعالج اليوم السابق و أنه بدراسة نتائج التحليلات التي أجرتها أخيرا وجد أن الخلايا السرطانية بدأت تهاجم جسدها مرة أخرى. قالت و صوتها مليء بالقنوط و الألم:
ـ هذه ثالث مرة يعود لي المرض اللعين بعد العملية، سألت الطبيب إذا كان هذا أمر عادي، أجاب بأنه يحدث و إنما نادرا بالذات سرعة عودته في حالتي.
سألتها بتعاطف: ماذا سيحدث الآن؟
أجابت فيما يشبه البكاء:
ـ سأضطر لتلقي العلاج الكيمائي اللعين مرّة أخرى و سأعاني من أعراضه الجانبية اللعينة مرّة أخرى. لقد سألت الطبيب ماذا لو رفضت العلاج؟ قلت له أني أفضل أن أعيش سنوات قليلة أو حتى أشهر قليلة دون آلام العلاج على أن أتلقى علاجا قاسيا يمنحني زيادة في عمر بائس معذب. لكنه قال أنه حتى بدون العلاج ستكون هناك آلام المرض فالمعاناة موجودة في الحالتين، العلاج الكيماوي مفروض أن يتيح لي مع المعاناة فرصة الحياة لبعض سنوات إضافية، سنوات أحتاج لها حتى يكبر الأولاد.
سألتها: عندما أخذت هذا العلاج سابقا هل أثر على قيامك بواجباتك المنزلية على عنايتك بأولادك؟
ـ طبعا رغم أني كنت أبذل أقصى ما في وسعي.
سكتت قليلا كأنها تراجع نفسها و إذا كان من المفروض أن تستمر في الحديث أم لا ثم قالت:
ـ أثر أيضا على علاقتي بزوجي.
كانت هذه أول مرّة تذكر فيها زوجها، صـَـمَتُ فأكملت بصوت مليء بالأسى و على وجهها ملامح ألم:
ـ شعرت أنه متذمر مما آلت إليه حالتي، لم يصارحني بشيء لكن هذه الآشياء لا تحتاج لذكر فالمرأ يشعر بها دون كلام.
أجبتها محاولا التخفيف عنها: قد يكون معذورا، فليس من السهل المعيشة مع إنسان يحتاج للعناية الصحية التي تحتاجينها.
ردت بشيء من الانفعال:
ـ هو معذور؟ ماذا عني أنا؟ أنا المريضة التي أعاني من أعراض المرض و من الأعراض الجانبية للعلاج؟ من فينا المعذور؟
أجبتها:
ـ هناك برامج و خدمات تقدمها بعض المستشفيات و المراكز للتعامل مع هذه المواقف، حيث تعقد اجتماعات مع أخصائيين يحضرها المريض و من يعتني به للكلام عن الأثار النفسية لهذا المرض على المرضى و ذويهم، و كيفية التعامل مع هذه الآثار.
ـ أعلم ذلك لكنه لم يقبل أن يأتي معي لهذه البرامج، أخبرني أنه لا يحتاج لها، و أنه يتعامل معي و مع مرضي بطريقة مقبولة.
سكتنا برهة، لم أجد ما أقوله، أكملت هي:
ـ تخيل عندما مررت بالعلاج الكيماوي أول مرة و تساقط شعري، شعر هو بالخجل من أن يخرج معي عارية الرأس، طلب مني أن أرتدي باروكة أو أغطي رأسي بوشاح.
سألتها بتردد:
ـ أليست تغطية الرأس أمرا عاديا تفعله كل النساء اللاتي يتلقين علاجا كيماويا؟
ـ لا أدري و لا أبالي بالأخريات، لكن أنا كانت رغبتي أن أخرج على الناس عارية الرأس، عارية الرأس حتى من شعري، لماذا كان علي أن أخفي مرضي؟ إذا كان مصيري أن أفقد شعري فهل وجب علي أن أراعي مشاعر الآخرين و أغطي رأسي حتى لا يصدم أحد بمنظر رأسي المستفز. المصيبة أني تزوجته عن حب و كنت أتعشم أن الحب مازال موجودا، لكن من الواضح أنه اختفى. أقسى ما عانيت منه كان عندما يظهر رغبته في ممارسة الجنس فأعتذِر برقة نتيجة حالتي. لم يكن عنده حتى اللياقة كي يداري تبرمه و غضبه. عموما في الفترة الأخيرة لم يعد يطالبني بمضاجعته، لا أدري إذا كان ذلك تقديرا لحالتي أم أنه سئم من رفضي.
قلت محاولا أن أهون عليها و أرفع من روحها المعنوية:
ـ ثقافة المنطقة التي نشأْتُ فيها و أتيت منها تجعلنا نثق بمشيئة الرب و أنه قادر على كل شيء بما في ذلك شفاء أي مريض و أنه لن يصيبنا إلا ما قـُدِر لنا.
سألتني و على وجهها الجميل الحزين ابتسامة تشي بشيء من الاستهانة:
ـ تريدني أن أثق بالله و أتعشم أن يشفيني؟ و أنه حتى إذا لم أشفى فهناك حكمة ربانية في عدم شفائي، تريدني أن أفعل ذلك لأنه حقيقة واقعة أم لأنه مُسَكِن روحاني يريحني و يـُغَيـِبُني؟
لم أدر ماذا أقول لها، لم أرغب في الدخول معها في حوار فلسفي، أمسكت يدها، ضغطت عليها و قلت لها:
ـ فاني، أنا آمل أن يمن الله علي بالشفاء الكامل، و آمل نفس الشيء بالنسبة لكِ، ابتسمت و قالت:
ـ أنت إنسان طيب، ليت ربك يكون طيبا مثلك و يمن علينا نحن الاثنين بالشفاء.
ثم أمسكت هي بيدي و قالت:
ـ تقول أنك تعيش بمفردك، ماذا لو أكملنا حديثنا هذا في منزلك؟ أشعر بالراحة و أنا معك.
كان طلبها مفاجأة لي، توجهنا لمنزلي، في الطريق لم نتبادل الحديث، عندما دخلت منزلي قالت مازحة:
ـ يبدو المكان مرتبا و نظيفا لرجل يعيش بمفرده.
اعتذرت لها لأني لا أحتفظ بمشروبات كحولية في منزلي، سألتها إذا كانت تود أن تشرب أي مشروب آخر، رفضت، جلست بجواري على أريكة حجرة الاستقبال، بهدوء و بدون كلام اقتربت مني، لصقت جسدها بجسدي، ضمت يدي في كفيها ثم طبعت قبلة طويلة عليها، في عينيها الجميلتين نظرة داعية واعدة، انتابتني الحيرة، عصفت برأسي أفكار و مشاعر متضاربة، أنا لست إنسانا مغاليا في تديني لكن أن أضاجع زوجة رجل آخر أمر غير مقبول حتى بالمقاييس الأخلاقية و ليس الدينية. في نفس الوقت شعرت أني لو رفضتها سأكون في منتهى القسوة، بذلت مجهودا كبيرا كي أتوقف عن التفكير، قررت أن أدع الأمور تأخذ مجراها، قربت فاني وجهها من وجهي تبادلنا قبلة طويلة قادتنا إلى الفراش.
كان الفعل غير مرضي لا لها و لا لي، جاءت ذروتي سريعة باهتة خافتة، بينما لا أدري إذا كانت هي قد وصلت لذروتها ام لا رغم محاولاتها و تأوهاتها.
رقدت بجواري عارية صامتة ساهمة تنظر لسقف الحجرة، جسدها بجوار جسدي، جسدان منهكان مريضان لا أدري ماذا يحاولان أن يثبتا. نظرت لي أخيرا فسألتها بصوت حاولت أن أجعله رقيقا متفهما:ـ فاني، لماذا؟
ردت:ـ كنتُ محتاجة.
سألتها مرة أخرى:ـ لماذا أنا؟ عندك زوجك، هو أصغر مني سنا و أكثر مني صحة، فلماذا أنا؟
ردت:ـ لأنك مريض مثلي.
حَوَلَت عينيها عني، نظرت للسقف مرة أخرى، و سالت دموعُها، احتضنت جسدها العاري الجميل المرتجف، قبلت دموعَها، احتوتنا لحظة من الحميمية و التواصل الإنساني التي كانت بلا جدال أكثر متعة و آدمية من الفعل نفسه.
لم أتصل بفاني بعد هذا اللقاء و لم تتصل هي بي. بعد عدة أشهر من لقائي الأخير بها ذهبت إلى المستشفى لموعد مع طبيبي المعالج، و أنا جالس في صالة الانتظار المزدحمة كالعادة شاهدت أورورا صديقة فاني و التي كانت بصحبتها عندما قابلتها لأول مرة، كانت تدفع أمامها عربة عليها قهوة و شاي و عصائر لمن يريد من المنتظرين، واضح أنها متطوعة لهذه الخدمة التي تمنحها المستشفى مجانا للمرضى و ذويهم. توجهت لها، تذكرتني، سألتها عن حالتها، أجابت بابتسامة كبيرة:
ـ لقد شفيت تماما، ياله من كابوس انزاح من على صدري، الأطباء هنا و طاقم المستشفى كانوا رائعين معي، لذلك فقد تطوعت كما ترى أحاول أن أساعد الغير. سألتها:
ـ صديقتك فاني التي كانت معكِ عندما قابلتك أول مرة كيف حالها؟
ارتسم الأسى على وجهها وقالت: ماتت منذ شهرين، العلاج الكيمائي لم ينجح في وقف انتشار المرض في جسدها.
سألتها:
ـ هل عانت قبل موتها؟
ـ أعتقد ذلك، و إن كانت هي من النوع الكتوم فلم تشتكي.
ـ ماذا عن أسرتها؟ زوجها و الطفلان؟
ـ أكيد الصدمة كبيرة على الطفلين، لكن الزمن كفيل بأن يبرئهما من هذه الصدمة، زوجها على مايرام، عنده صديقة انتقلت أخيرا للسكن معه و مع الطفلين، في الغالب كان يعرفها قبل وفاة فاني، أرجو أن يحسن هو و صديقته معاملة الطفلين فقد تعرضا لمأساة قاسية.
جلست على مقعدي انتظر دوري، انتابني حزن جارف على فاني، هل كانت تعلم أن زوجها على علاقة بإمرأة أخرى، أكيد زاد هذا من آلامها النفسية، هل كان حضورها لمنزلي و مضاجعتها لي هو ردها على علاقة زوجها بإمرأة أخرى؟
بعد ستة أشهر من هذا اللقاء عندما حان ميعاد زيارتي الدورية للمستشفى شاهدت أورورا مرة أخرى، كانت تمارس عملها التطوعي في تقديم المشروبات للمنتظرين، شاهدتني فأقبلت نحوي، سألتني عن حالتي فأجبتها باختصار عن علاجي و تطور حالتي، ثم لتغيير مجرى الحديث عن موضوع المرض اللعين قلت لها مداعبا:
ـ اسمك أورورا، جميل و نادر و له وقع موسيقي، ما معناه؟
أجابت:
ـ الاسم موجود في الأساطير الرومانية القديمة، اسم إحدى آلهتهم، معناه نور الفجر. هل تعرف من كان هنا الإسبوع الماضي لأول مرة للعلاج؟
ـ كيف لي أن أعرف؟ من؟
ـ روبرت، زوج فاني، تحدثت معه، كان هنا لرؤية طبيب أخصائي، إتضح أن عنده ورم خبيث في البنكرياس، أسوأ أنواع السرطان، كان منهارا تماما.
صدمت من الخبر، جلست أنتظر دوري لمقابلة طبيبي و أنا أتعجب من سخرية القدر، جلت ببصري في قاعة الانتظار المزدحمة، شعرت بوجود شبح الموت فيها، وجود قوي غلاب، لم تفلح نظافة المكان و حداثة أثاثه و رقة العاملين فيه في إبعاد الشبح اللعين، أكيد هو ينتقي الآن ضحاياه التاليين من زوار قاعة الانتظار هذه، انتابني شيء من الخوف و الهم، شعور ثقيل سخيف رهيب يحتويني.
نظرت إلى أورورا، واقفة على بعد توزع المشروبات على المرضى المنتظرين و توزع مع المشروبات ابتساماتها و دعاباتها.