بقلم: نعمة الله رياض
إستلقي علي فراشه يحدق في وجوم لسقف زنزانته , يجتر الأحداث الأليمة التي قادته إلي هذا المصير .. لم يتعدي عمره السابعة والعشرون, لكنه سيبقي علي الأرجح وراء القضبان بقية حياته بسبب الجريمة البشعة التي إرتكبها .
كان أشبه بفأر حبس داخل مصيدة لا فكاك منها , بلا أدني أمل في تغيير واقعه المر الجديد..لا يعرف عن يقين هل هو مجرم شرير بطبعه , أو كان ضحية وتم التغرير به ..
إختلطت الرؤي أمام عينيه , تذكر نشأته في قرية صغيرة بالقرب من المنيا بوسط صعيد مصر , كان الإبن الوحيد لوالديه بعد ثلاثة من البنات وذكر آخر توفي فور ولادته .. من فرط سعادة والده , سماه (فاضل), راجيا من الله أن يبقية حيا يرزق.
تنهد فاضل متألما” .. فكر في والديه , وكم ستكون حسرتهم عندما يعلموا ما آل اليه إبنهم الوحيد .. لقد كبر وتربي في بيئة محافظه تؤمن بالله ,وكان يواظب علي الصلاة والصوم كما علمه والداه .. أنهي تعليمه الثانوي ثم تخرج من معهد تجاري بالمنيا . فشل في الحصول علي وظيفة تناسب مؤهله فعمل محاسبا في مخبز صغير !!, كان يحصل علي أجره في نهاية كل يوم بالإضافة لمكافأة خمسة عشر رغيفا يعود بهم للمنزل !! كان يتعامل مع الجميع بود وسماحة , مسلمين كانوا أو مسيحيين كما أوصاه والده . ألحت عليه والدته أن يبحث عن فتاة مناسبة ليتزوجها , ولكن الأحوال الاقتصادية كانت غير مشجعة وكان ينتظر حتي يكون له دخل كافي لتكوين أسرة ..
سمع عن الشباب الذين يعبرون البحر إلي أوروبا , حالمين بحياة أفضل حيث فرص العمل الوفيرة.. أصبح حلم الهجرة يراوده ويلح عليه, فعزم علي المغامرة والسفر بحرا لأوروبا , صارح والديه بنيته فواجه معارضه شديدة من والدته وبكاء متصل خوفا” علي إبنها الوحيد من الغرق , كما حدث لبعض شباب القرية ,ولكن الوالد كان مقدرا” لظروف الأسرة وعدم إستطاعتها تلبية الإحتياجات المتزايدة لتجهيزه هو وأخواته للزواج .. كانت الهجرة الغير شرعية هي السبيل الوحيد أمامه للوصول إلي أوروبا , لعدم توافر شروط السفارات الأوربية لقبوله مهاجرا” شرعيا”.. أصبح عليه تدبير آلاف من الدولارات لتغطية مصاريف الرحلة .. باع والده ربع فدان هي كل الأراضي الزراعية التي يملكها , لكنه كان يحتاج لمزيد من النقود .. توجه والده إلي صديقه المقرب العم بولس صاحب متجر للبقالة بالقرية وشرح له ظروف إبنه وطلب منه قرضا” يسدده علي أقساط بدون فوائد .. رحب العم بولس ودعا الله أن يوفق (فاضل) في رحلته, فقد كان يحبه منذ أن إستشهد إبنه مينا المجند في الجيش في الحرب ضد مسلحي داعش في سيناء .
في إستعداده للرحلة , تعلم السباحة وقيادة السيارات. سلم علي والدته وقبل يديها وسط دموع أفراد الأسرة داعين له بالتوفيق..
سافر إلي السلوم , وقابل مع مجموعه من الشباب مثله المهرب المصري المختص , دفعوا له المبلغ المتفق عليه للتسلل إلى ليبيا.. ركبوا معه سيارة دفع رباعيه قطعوا بها مئات الكيلومترات في الصحراء للوصول إلي نقطة عبور معلومة علي الحدود المصرية الليبية , حيث سلمهم المهرب إلي مهرب آخر ليبي نقلهم باتجاه الساحل الليبي إلى منطقة الزوارة على شاطئ البحر المتوسط غرب ليبيا. وهناك بعد إحتجازهم لعدة أيام قرب الشاطئ، حان موعد الرحلة , إنتزعوا منهم الحقائب، كي يخففوا الوزن على القارب , وأمروهم بخوض البحر علي الأقدام للوصول إلي قارب مطاطي صغير، كي يأخذهم إلى يخت متهالك سيبحر بهم باتجاه جزيرة لامبيدوزا.. على اليخت كان هناك حوالي مائة وخمسون شخصا”. أمروا كل الشباب بالنزول إلى غرفة المحرك في الأسفل، فيما بقيت النساء والأطفال على سطح اليخت . غرفة المحرك كانت ساخنة , والهواء يتسرب لهم من فتحة صغيرة في السطح. حالات القيء والإغماء كثيرة. كان الوضع صعبا لا يطاق، ولم يتحمل ذلك صديق له من أسيوط لضعف صحته ففقد الوعي ولفظ أنفاسه , القوا بجثته في البحر .. مضت الرحلة، وعصر اليوم التالي وصل اليخت إلى البارجة, وهي السفينة الحربية لخفر السواحل الإيطالي وكانت تبحر في دورية بين مالطة وتونس في المنطقة الإدارية التابعة لإيطاليا. وطبقا لقرارات الإتحاد الأوربي , فإن الدولة الأوربية التي يصل لاجئون الي حدودها أو مياهها الإقليمية ، ملزمة بإنقاذهم من الموت وإستقبالهم وإيوائهم لحين دراسة حالتهم,لإن ذلك يتناسب مع قيم الإنسانية وأصول الحضارة الحديثة ..
بقي في معسكر الإيواء بضعة أيام ثم هرب مع عدد من اللاجئين وإستقلوا القطار إلي النمسا ثم إلي الحدود الألمانية وهناك إنضموا إلي اللاجئين السوريين والأفارقة الذين قدموا عن طريق تركيا .. سمح لهم بالدخول بعد تسجيل بياناتهم إنتظارا” لتسوية حالاتهم . تنقل في عدة أعمال في مدن المانيا , وإستقر اخيرا في مطعم للوجبات السريعة بمدينة برلين .. تعرف علي إنجريد زميلته في المطعم ,كان يعجبها بنشاطه ووسامته وقوامه الفارع وبشرته القمحية , فتقربت منه, وكان بدوره معجبا بها , بوجهها الصبوح المبتسم دائما وذكائها المتوهج وقوامها المتناسق المائل قليلا للإمتلاء , وذلك الجمال الألماني النموزجي ببشرتها البيضاء وشعرها الأصفر الذهبي وعيونها الزرقاء.. أصبحت صديقه له وواظبت علي تعليمه اللغة الألمانية فأصبح يتكلمها بطلاقه .. عندما إمتدت صداقتهما ,عرضت عليه أن يشاركها في السكن توفيرا” في المصاريف , رغم إعجابه بها , رفض الفكرة المخالفة للتقاليد الشرقية وعرض عليها في المقابل أن يتزوجها زواجا” مدنيا, رحبت إنجريد .. وهكذا إنتقل فاضل إلي شقتها . مر علي زواجهما حوالي أربع سنوات رزقا خلالها بهانز ومارلي , واقنعت فاضل بالتقدم لمعهد تجاري الماني للحصول علي مؤهل معترف به للعمل كمحاسب أملا في تحسين دخل الأسرة..
سارت الأمور علي ما يرام ,وبدا المستقبل مبشرا ومستقرا , إلي أن قابله بعد صلاة الجمعة في مسجد ببرلين رجل حليق الرأس والشارب وبلحية كثيفة , بادره بالسلام وقال له :
– لاحظت من فترة أنك تغادر المسجد مسرعا بعد الصلاة بدون أن تسلم علي أحد من أخوتك في الإسلام , دعوت إلي الله أن يفتح علينا بالتعارف والترحيب , أعرفك بنفسي , انا أبو همام أخوك في الإيمان من العراق.
– لي الشرف يا اخي , إسمي فاضل قادم من مصر
– مرحبا بك .. هل لي أن أدعوك إلي صالة لألعاب القوي أمتلكها علي بعد شارعين من هنا يلتقي فيها إخوتنا في الإسلام بعد صلاة الجمعة , نتباحث في أحوالنا ومشاكلنا ؟
– أشكر إهتمامك لكني مرتبط بأعمال يجب علي إنجازها .
– هيا بنا يا أخي لن نستغرق سوي دقائق تسلم عليهم وتنصرف إلي شؤونك . – حسنا” بضع دقائق فقط كما قلت ..
قدمه ابو همام إلي ابي حفصة قائلا :
-أعرفك بأبي حفصه أمير إمارة برلين ..
قال له أبو حفصة :
– مرحبا بك يا أخي , ساصارحك بالقول .. إننا نلاحظك منذ فترة ونعرف عنك الكثير .. نحن نجتمع هنا سرا لرفعة شأن المسلمين , نحن اعضاء في خلية عاملة من خلايا تنظيم الدولة الإسلامية ويطلقون عليه داعش .. ونري أن الشعوب الإسلامية تعاني من الإستبداد والقهر الذي يمارسه حكامها , كذلك من هيمنة الغرب الكافر وعدم جدوى الطرق السلمية في الإصلاح, ونعتزم بإذن الله إعادة مجد الإسلام والخلافة الإسلامية .. نحن ندعوك كشاب مثقف وحريص علي نصرة الإسلام ,إلي الإنضمام إلينا والإيمان بمعتقدنا المبني علي صحيح الدين. إننا نعد بتوفير أجوبة قطعية (أسود أو أبيض) مبنيه علي اليقين لجميع التساؤلات، ونعِدُ بحلول سريعة للمشكلات التي تواجه الأفراد و الأمة بشكل عام، ستصبح منتمياً إلى كيان له أفكاره وأهدافه الواضحة، كيان يشعر أتباعه بأنهم أفضل وأكمل وأنقى من الآخرين، وأن الآخرين الكفار لا قيمة لحياتهم. وبالتالي، فهم لا يستحقون العيش، ناهيك عن التعايش.
شعر فاضل بضغط هائل يمارس عليه منذ بدء لقائه معهم , ووجد نفسه قد تورط , مما يجعل عصيانه عن الجماعة خطراً عليه وعلي أسرته , سلم عليه أبو حفصة وأعطاه حزمة من المال قال إنها إعانة شهرية تساعده هو وأسرته , وطلب منه ألا يذهب إلي الجامع ليكون بعيدا عن رقابة المخابرات , وسيلتقون معه في أماكن مختلفة كلما إستدعت الحاجة .
في لقاء آخر , سأله ابو همام عن أفراد أسرته أجاب فاضل :
– زوجتي المانية إسمها إنجريد ولي إبن عمره ثلاث سنوات إسمه هانز وإبنة عمرها سنة ونصف إسمها مارلي .
– هذه الأسماء لا تليق بمجاهد مثلك .. ستدعو زوجتك إلي الإسلام,لتربي الأولاد حسب معتقداتنا , ومن الآن ستنادون بعضكم البعض بأسماء مباركه .. أنت الأب سيكون إسمك أبو هاشم , وإبنك سيكون بالطبع هاشم وإبنتك سيكون إسمها مروه , أما زوجتك فستناديها بجنات , إياك أن تناديهم بأسماء الكفار بعد الآن . يجب علي زوجتك أن تتحجب , والأفضل لها أن تتنقب , ونريد منك أن يكون لك ثلاث أبناء آخرين علي الأقل تنفيذا لتوجهاتنا ولعزة الإسلام..
– وكيف نستطيع أن نربي هذا العدد من الأطفال ؟!!
– لا تقلق يا أخي , فسنساعدك ماليا , كذلك ستستفيد من إعانات الحكومة عن كل طفل جديد يولد . هل تعلم انك بذلك تساهم في زيادة عدد المسلمين في العالم , فالإحصائيات توضح إرتفاع مُعدّل الولادة عند المرأة المسلمة مُقارنةً بالمرأة المسيحية ، والهندوسيّة, واليهوديّة.صدقني فكثير من الرجال هنا في أوروبا يتزوجون من أربع نساء ,وهذا حقهم شرعا” , وكل واحدة تنجب أكثر من أربعة أطفال ,ثم يطلقهم أزواجهم صوريا ليحصلوا علي إعانات حكومية ..وطبقا لنفس الإحصائيات ,ففي خلال خمسين عاما يا أخي ستتحول أوروبا , هذه القارة العجوز إلي إمارات إسلامية ذات أغلبية لصالحنا !!
في لقاء أخير قال له أبو همام :
– أبشر يا أبو هاشم , لقد إخترناك لتنفذ عملية جهادية ضد الكفار.. ولإنك وجه جديد غير معروف للشرطه أو المخابرات , سنزودك بمسدس وعدد من الطلقات .. ستستولي علي سيارة وتدهس بها جموع الكفرة الذين يشترون هدايا أعياد المبلاد..
– ولكنهم من العائلات ومنهم سيدات وأطفال, فما الهدف من تلك العملية؟
– يا أخي إننا في حرب ضد الكفار وهؤلاء الأطفال عندما يكبروا , سيحاربوا المسلمين ويقتلوهم ..إننا نهدف إلي بث الرعب في قلوب الكفار وتشتيت جهودهم الأمنية وإرهاق إقتصادهم .. لا تقلق علي زوجتك وأطفالك إذا أكرمك الله بالشهادة , سنرعي أطفالك حتي يصبحوا مجاهدين مثلك ,وستنخرط زوجتك مع المجاهدات لرعاية إخوانها الرجال وتلبية إحتياجاتهم.. أنت مجاهد في سبيل الله , وعليك الطاعة .
لم يخبر زوجته بما سيفعل , وقبل أعياد الكريسماس بستة أيام ,خرج فاضل من منزله وأشهر مسدسه وأطلق النار علي سائق سيارة نصف نقل وأرداه قتيلا وألقاه في الطريق وقاد السيارة إلي أسواق هدايا عيد الميلاد , وبدم بارد وأعصاب مخدره, دهس بالسيارة حشدا” من المتسوقين, فقتل علي الفور إثني عشر شخصا وإصاب خمسين آخرين بعضهم إصابتهم حرجة, ومعظمهم من النساء والأطفال ..كما قتل جندي وأصاب آخر من الشرطة إثر تبادل إطلاق النار.إستسلم بعد أن فرغ ما معه من طلقات المسدس.
زارته زوجته في السجن ومعها أبنائها , كانت تبكي بحرارة علي حاله وحالها نظر إليها بعيون زائغة وحزينة .. قال لها :
– لقد كنت مغيبا وارتكبت جريمة لا تغتفر في حقك وحق بلدك , ولا تنفع التوبه.. يجب الآن أن اتقبل الحكم علي جريمتي البشعة مهما كان.. أما أنت فستكونين من الأن في حل مني .. أنت طالق يا إنجريد وحره مع أبنائك هانز ومارلي, الله يرعاكم .. إنسي فاضل , وإقطعي علاقاتك مع هؤلاء المتطرفين الملاعين, وأرجو ألا تزوريني في السجن مرة أخري .
نادي عليه حارس السجن ليتسلم طعام الإفطار , نهض من الفراش وأخذ صينية الطعام من نافذة في باب الزنزانة .. تمر أيامه كئيبة في السجن ينتظر فيها محاكمة طويله ومُكلفة للحكومة الألمانية , بتهمة تعمد قتل وإصابة أكثر من ستين مواطنا في الدولة التي إستضافته .. في بلد أوروبي كغيره من باقي البلدان الأوروبية التي ألغيت فيها عقوبة الإعدام منذ زمن طويل , لأنها لم تعد تتناسب مع قيم الإنسانية وأصول الحضارة الحديثة . !!!