بقلم: كلودين كرمة
لا أحد يدرى ما بداخلى ولا فكرى يستوعب ما تخبأه نفسى ويستقر فى أعماقها..إنها لأمور كثيرة ومتشابكة ومتداخلة مع بعضها البعض ..وأناس شربت من أيديهم كل الفرح ونفس هذه الآيادى أسقتنى المر.. ياله من عجب ! فكيف للناس قدرة على التحول ؛ وفجأة و نحن نمد ايدينا لنستقى الخير منهم كالعادة ، فنتجرع المرارة ، لنسرع ونتفحص لننبههم قائلين أن المحتوى شديد القسوة وطعمه كالعلقم فخذوا حذركم ألا تقدموا منه مرة أخرى وعندها تصعقنا المفاجأة : ونرى نظرا ت ثاقبة ووجه بشع قد إرتسمت عليه ملامح مخيفة، ونبرات صوت ثائرة تعلن أن ما قدمته أيديهم من ألم وأذى كان مقصودا مع سبق الإصرار وليس عفويا .. ودون إبداء أسباب أو منح فرصة لطرح المشكلة أو للتفاهم والتوضيح ؛ فقط فى لحظة قد قرروا هدم العلاقة وتشويهها وإلقاء الإتهامات جزافا ولا يتركون أى مساحة للتفاوض ويفرضون القرارات وينزلون العقوبة على من يريدون ولو حتى لم يكن طرفا منذ البداية فى أى حوار أو نزاع يا له من جبروت فى سرعة اتخاذ قرار بإعدام المشاعر ودفن الذكريات الجميلة وقطع التواصل وهم فى قناعة شديدة أنهم ذو ذكاء وقدرة على تحليل المواقف وقراءة الأحداث وأن ما إتخذوه من فرض الحصانة ، وما أنزلوه من عقاب كان واجب حتمى – ليس لإصلاح الأمر بالتأكيد – وإنما لزيادة الأمور تعقيدا لا يمكن أن ينفرج بعدها الكرب. فكم من علاقات تهدمت وبيوت تصدعت وصداقات انتهت بسبب كلام وإثباتات مغلوطة وحقائق مشوهة وتركيب أحداث بعضها فوق بعض وترتيبها بحيث تظهر الصورة – وهى من وحى خايلهم – وكأنها هى الحقيقة المؤكدة مدعمة ببعض التعليقات والإيماءات حتى تكون مقنعة ولا تسمح بتسرب الشكوك.
وقد تعجبت من أناس يظهرون غير ما يضمرون بالحقيقة – ولم أعنى هنا بالتأكيد من يحاول أن يتحكم فى ردود أفعاله حتى لا يخسر أناسا أعزاء و لا تسؤ علاقته فهذا نوع من تهذيب النفس – انما أقصد من يضمرون فى قلوبهم الضغينة و فى فكرهم يدبرون المكائد ويدعون أنهم أهل للثقة ويخدعون من تصفى نفوسهم للدنيا ويحسنون الظن وهم لا يشغلون بالهم بالقيل والقال.. نعم هناك صعوبة بالغة في محاولة للنجاة من هذه الصراعات أو التأقلم مع مختلف الشخصيات ، وقد تبدلت المشاعر وتغيرت الأماكن وقد طمس الزمان معالم الأيام ، و قد طوى فى طياته الكثير من الأيام التى كنا نظن أنها سوف تدوم مادامت لنا الحياة وإننا سنستمتع بتفاصيلها وننسج من وحيها الأمل لمستقبل لا يقل عنها فى الروعة والجمال.
ولكننا مهما عانينا فإننا مازلنا نستنشق عبق ذلك الزمان وصوره المحفورة فى الوجدان من حب ومودة وتراحم و تضحية و الكثير من العطاء ؛ فهى تشكل لنا معنى الحياة و علة للاستمرار لأنها تضفى الجلال والبهاء وتضيف رونقا لكل ما بهتت صورته وبات منسيا أمره فى غمرة الأحداث و المهاترات. وهنا صدق القول “ اسمع كلامك أصدقك أشوف أمورك أتعجب “.. فعند الظواهر نتوقف وننبهر ونصفق ونصدق الوعود وغالبا هذا يكون إرضاءا للذات أو لجذب الانتباه ونوال التقدير من الحضور…ولكن ماذا عن غياب الفعل وما أكثر حجج التأجيل وعدم الوفاء! ويتكرر الوعد ويتكرر نقضه . فأى زمن هذا يفرض علينا أن نعيش الأمر ذاته مقتنعين تماما بصحة عكسه؟! فكر غريب لا يبرره أى منطق ..فمن الثوابت أن ندعم رأى ونثبت صحته بالدليل والبرهان وعندئذ نبطل عكسه اذ لا يصح إلا الصحيح .
ولكن فى عصرنا هذا فكل رأى يحظى بالاستحسان وكل فكر ينال التقدير وكل له حجته ؛ وبهذا لم يعد هناك خطأ و صواب ، فما اعتبره خطأ هو عقيدة عند الأخر والعكس صحيح.. فكل فرد أصبح فيلسوفا له مبادئه حسب ما يوافقه وحسب وجهة نظره والأخطر إنه لا يعبأ كثيرا برأى الآخرين أو بوجهة نظرهم ، فهذا تفكيره وهذا ما يناسبه وهذا عالمه الخاص به فمن يحلو له فليشاركه ومن يعترض فليذهب حيثما يشاء، قريبا كان أو صديقا فليس هناك فرق ..أصبح أقرب الناس لى هو من يتبع منهجى أما من يخالفنى فهو خصم عنيد.
فياله من تشويش يظلم العقول والقلوب والضمائر ؛ إن عدم وضوح الرؤيا وخلط الأمور وكثرة الحجج تلقى بالإنسان فى بئر عميق تملأه الظنون مما ينتج عنه نزع الثقة بالنفس وهنا تكمن الخطورة إذ لم تعد هناك مقاييس واضحة للتمييز بين الحق والباطل والصواب والخطأ والأخذ بعين الاعتبار القيم و صدق النوايا، فيتردد الإنسان كثيرا فى أخذ القرارات الحاسمة اذ لم يستطع أن يبنى رأيه على أسس سليمة ومعايير تقييم جيدة تصونه من الوقوع فى المكائد .