بقلم: محمد منسي قنديل
في تاريخ مصر كان هناك أكثر من بيبرس، الاول هو الظاهر بيبرس الذي حكم مصر لمدة سبعة عشرة عاما، واستطاع في هذه الفترة ان يقضي على الصلبيين والمغول وان يخرجهم من فلسطين والشام تماما، وكان واحدا من اعظم المقاتلين الذين عرفهم التاريخ رغم قسوته الشديدة، وهذا النوع من الحكام هو بلاء مصر الدائم، ولكن بيبرس الثاني كان مختلفا، لم يحكم مصر إلا عاما واحدا، واغفلت ذكره معظم المراجع المعتمدة، كان سلطانا مجهولا مر إلى مصيره قبل أن تلتف إليه التاريخ، اسمه ولقبه الكامل السلطان المظفر ركن الدين بيبرس الجانكيير هو السلطان الثاني عشر، وكان رفاقه القدامى من المماليك، يشعرون أنه قد ابتلع لقمة أكبر من اتساع حلقه، فقد كان هو الحلقة الاضعف بين المماليك الاقوي الذين لم يكفوا عن التصارع، لم يكن أحد منهم يملك القوة ليفرض إرادته على الأخرين ، لذلك وقع اختيارهم عليه، حتى يستيطيعوا يركبوه جميعا، في اليوم الاول من سلطنته استولى السلطان على كل ما وجده في الخزائن من ذهب وفضة، ولكن ما فيها لم يكن كافيا لاشباعه، خطر بباله أن يفرض المزيد من الضرائب، ولكن نائبه المحنك أخبره أن مصر بلدا روحها النيل، إذا وفا امتلأت البلاد بالغلال، وامتلأت الخزائن بالأموال، وإذ لم يف فقل علينا السلام، ولكن النيل في هذا العام لم يف بوعده، توقف ارتفاع المياه قبل أن يصل إلي قياسه المحدد، وظلت الأرض عطشى والبذور جافة والنيل غائض.
شحت الغلال وارتفعت الاسعار وخبأ التجار الاقوات حتى يبيعوها بسعر اعلى، بدت ملامح المجاعة، وتشاءم الناس من وجه السلطان الجديد، ولكنه وجد في تلك المصيبة فرصة سانحة، كانت مخازن القلعة مليئة بالغلال، وبدلا من أن يوزعها على الجوعى والمحتاجين كما جرت العادة، أخذ ببيعها بأعلى الاسعار، وضجت الناس من الغلاء، ولم يكن أمامهم إلا السخرية يقاومون به حنقهم وجوعهم، ساروا في الشوارع وهم يغنون: “ياسلطان ياركين، من وشك غاض النيل”، انتشرت الاغنية، عبرت الشوارع والازقة وصعدت إلى مسامع السلطان في القلعة، كانوا يسخرون من اسمه ويحورونه من ركن الدين إلى ركين، رأى أن الحرافيش قد اساؤا الادب ، ويجب أن يعاقبوا، أمر حراسه فهجموا على الاسواق والمقاهي، ضربوا من فيها بالمقارع وجروا قسما كبيرا منهم إلى سجن العرقانة، ساد الرعب المدينة، وتوقف الغناء، هرع أهالي السجناء باكيين إلى ساحة القلعة، يتوسلون للسلطان حتى يفرج عن ابنائهم، ولكن غضبه كان شديدا، لم يخف إلا بعد أن فرض على كل واحد من السجناء عشرين قطعة ذهبية ليفرج عنهم، ودفع الاهالي صاغرين، ومن لم يقدر أهله على الدفع، ظل ملقيا في غياهب السجن لا يعرف مصيره سوى الله، وظفر السلطان بمبلغ جيد من الذهب .
ثم جاءت مشكلة أخرى من الشام، حيث كان يوجد السلطان السابق الناصر قلاوون، كان قد عزل نفسه بنفسه حين رأي تحكم كبار المماليك فيه، ولكن عندما ضاق الحال بقادة المماليك في مصر، وعانوا من جشع السلطان، بدءوا يراسلونه، لعله يأتي ويأتي الخير على يديه، ووقعت أحد الرسائل في يد السلطان بيبرس فجن من الغضب، وامر بالقبض على كل من راسل وعرف وتواطأ، كانت فتنة هائلة لم يشهد المماليك مثلها منذ أن قامت دولتهم، ألقي القبض على أكثر من ثلاثمائة من القادة ومقدمي الجند، قتلوا وضربوا وحلقت لحاهم وشواربهم وسيقوا إلى سجن الاسكندرية، ولم يكن هذا السجن إلا قبوا هائلا قل أن يخرج منه أحد وهو حي .
ووصلت الاخبار السيئة إلى الشام ، وعلى العكس من ذلك تقوى عزم السلطان قلاوون الابن، بدأ يقوم بزيارات لكل الولاة الذين يحكمون المدن الشامية، كانوا جميعا من تلاميذ ابيه قلاوون الاكبر، هو الذي اشتراهم واعتقهم وحولهم إلى حكام وقادة، طلب منهم أن يسيروا معه إلى مصر، حيث الذهب والنساء والسلطة المطلقة، اغراء لا يستطيع احد مقاومته، انضم إليه والي دمشق ثم والي حلب وحمص وصفد، جمعوا جيوشهم في جيش واحد وبدءوا في المسير، وصلت الانباء إلى السلطان بيبرس في مصر، ادرك أن الخطر هذه المرة اكبر من أن يعالجه بالسجن أو القيام بضربة مباغتة، كان لابد من جمع الجيوش وانفاق الذهب، كان الذهب الذي حلم به، والذي فعل المستحيل من اجل جمعه يوشك أن يتبدد من يده، نظر إلى المدينة الهاجعة تحت اعتاب القلعة، خائفة ومظلمة، كان واثقا أن سكانها يكرهونه ويتمنون هزيمته، وكان الرد الوحيد عليهم هو أن ينتصر، يؤكد لهم مدى قوته وسطوته ، ثم يجعلهم بعد ذلك يدفعون الثمن، ولكن هذا كان متأخرا ، تسلل معظم الامراء والقادة، وهربوا إلى الشام.
اصيب السلطان بالذهول، لم يتصور أن يتخلى عنه الجميع وأن يغدو فجأة بلا جيش، لم يحدث هذا لسلطان من قبل، تطلع إلى اسوار القلعة الهشة التي لا تستطيع حمايته، والمدينة الضيقة التي لا يمكن أن تأويه ، قال له نائبه وقائد جيشه أنه ليس هناك من حل إلا أن تتنازل عن العرش وأن ترسل للناصر قلاوون تطلب منه العفو حتى يحفظ عليك حياتك، ويتركك تذهب إلى حيث تريد، حضر شيوخ المذاهب الاربعة، انهمكوا على الفور في إعداد وثيقة التنازل، دون أن يأبه أحد بالنظر إلى السلطان المذهول، وما أن فرغوا منها حتى انصرفوا سريعا ليستعدوا لاستقبال السلطان الجديد ،لم يكن هناك وقت للرثاء او لتطيب الخواطر.
كانت الليل ثقيلا، ووجد الناصر بيبرس انه غير قادر على انتظار رد السلطان القادم ، كان يجب أن ينجو مبكرا قبل أن تتحول القلعة إلى فخ، هبط إلى الحظائر وأخذ اجود ما فيها من خيول، ووضع عليها ما جمعه من ذهب، الصديق الباقي بعد أن تخلى عنه كل الاصدقاء، اتجه إلى الباب الخلفي للقلعة المطل على قرافة المقطم.
ولكن كان في انتظاره العوام والحرافيش، الذين ضربهم بالمقارع وسجن ابناؤهم وسلب امواهم وباعهم الاقوات بأثمان فاحشة، كانوا يسدون طريقه بوجوههم الجائعة المغبرة، يصيحون به: لن تفلت منا ياوش النحس، تردد صدى أصواتهم فوق تلال المقطم المتجهمة، أدرك انها النهاية، مد يده إلى الخرج الموجود على ظهر الجواد، لم يخرج غدارة أو سيفا، ولكن امسك قبضة من قطع الذهب ونثرها فوق رؤوسهم، في أول الأمر لم يفطنوا لما حدث، ظللوا يواصلون الاقتراب والتهديد، القى عليهم بالقبضة الثانية والثالثة حتى بدأ بريق الذهب يخطف بريق الصباح، تخلخلت حلقة الحصار من حوله، تركوه واخذوا يدرون حول أنفسهم باحثين عن مكان الذهب المتساقط، وظل هو يواصل نثر الذهب وقد انتابته حمى الحفاظ على حياته، انشغلوا عنه جميعا، تدافعوا ونثروا في عيون بعضهم البعض الحصى والتراب، تصاعد غضبهم وبدءوا في العراك، واستطاع بيبرس أن يلوي عنان جوادة وان يعدو مبتعدا، كان قد اصبح مفلسا ولكنه كان مازال حيا ، وهكذا اختفي عن أبصارهم ولم يسمع احد عنه منذ ذلك الحين .