بقلم / مسعود معلوف
بناء على دعوة من الرئيس الأميركي جو بايدن عقدت في منتجع كامب ديفيد قمة يوم الجمعة في الثامن عشر من شهر آب/أوغسطس الجاري ضمت، بالإضافة الى الرئيس بايدن، كلا من رئيس جمهورية كوريا الجنوبية يون سوك ياول ورئيس وزراء اليابان فوميو كيشيدا. معظم المراقبين اعتبروا هذا اللقاء حدثا تاريخيا، سواء لجهة رمزية مكان وتاريخ انعقاده، أو لجهة مضمون التفاهمات التي نتجت عنه.
أولا، بالنسبة الى رمزية المكان الذي عقد فيه هذا اللقاء، فإن منتجع كامب ديفيد كان استحدثه الرئيس الأميركي فرنكلن روزفلت عام 1942 أثناء الحرب العالمية الثانية كمركز آمن بعيد بعض الشيء عن العاصمة واشنطن (حوالى مائة كيلومتر) للإستراحة حيث عقد فيه لقاءه الشهير مع رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل عام 1943 وتم التخطيط آنذاك لعمليات حربية مشتركة ضد ألمانيا وإيطاليا، كذلك التقى في هذا المنتجع الرئيسان أيزنهاور وخروتشيف أثناء الحرب الباردة، ولكن اللقاء الأهم الذي عقد في كامب ديفيد ونتج عنه اتفاقات حملت إسمه كان اللقاء الذي نظمه الرئيس جيمي كارتر مع كل من الرئيس المصري أنور السادات ورئيس وزراء اسرائيل مناحيم بيغن.
أما من ناحية الرمزية في تاريخ عقد هذه القمة الثلاثية، فإن شهر آب/أوغسطس هذه السنة يصادف الذكرى الثامنة والسبعين لإلقاء الولايات المتحدة قنبلة ذرية على كل من مدينتي هيروشيما وناغازاكي اليابانيتين حيث قتل مئات آلاف المدنيين اليابانيين، كما أنه يصادف الذكرى الثامنة والسبعين لخروج قوات الإحتلال اليابانية من كوريا الجنوبية بعد أن احتلت هذه القوات شبه الجزيرة الكورية من العام 1910 حتى العام 1945 ونكلت بالمواطنين، كما أنها جندت بالقوة عشرات آلاف الشبان الكوريين ليعملوا لمصلحة اليابان بما يشبه العبودية.
وقد شاء الرئيس بايدن عقد هذه القمة الثلاثية في هذا المنتجع بالذات بين ثلاث دول تميزت علاقاتها بالحروب والدمار فيما بينها لإضفاء أهمية خاصة عليه، علما بأن أي اجتماع دولي لم يعقد في هذا المكان منذ عام 2015 عندما اجتمع فيه الرئيس الأسبق باراك أوباما مع رؤساء دول مجلس التعاون الخليجي.
ثانيا، بالنسبة الى نتائج هذه الإجتماعات فإنها شملت أمورا اقتصادية وتكنولوجية ودبلوماسية وأمنية، ولكن جميع هذه الأمور جاءت على خلفية دفاعية عسكرية، وهذا ما أثار حفيظة كل من الصين وكوريا الجنوبية.
لقد توصل القادة الثلاثة الى التوافق على أن يتم تبادل المعلومات فيما بين دولهم في كل ما يتعلق بتحركات الصين العسكرية في منطقة مياه المحيط الهندي والمحيط الهادئ (إندو-باسيفيك) بما في ذلك في مضيق تايوان الذي يشهد توترا متزايدا، وكذلك في كل ما يعود الى تطوير كوريا الشمالية ترسانتها العسكرية النووية. وذلك يتطلب بالطبع تنسيقا ثلاثيا في المراقبة التكنولوجية لهذه التطورات، فالمسؤولون في الدول الثلاث التزموا التشاور فيما بينهم في حال قامت كوريا الشمالية بتجارب نووية أو في حال حصول عرقلات في سلاسل التوريد.
من جهة ثانية، تم التوافق على عقد لقاء قمة لقادة الدول الثلاث بصورة سنوية، وإجراء تدريبات وتمارين عسكرية مشتركة في مياه “الإندو-باسيفيك” لاحتواء التوسع الصيني العسكري في هذه المنطقة، وكذلك عقد لقاءات سنوية بين وزراء الخارجية والدفاع والتجارة والصناعة ومستشاري الأمن القومي لهذه الدول.
اما المسألة الأهم التي توافق عليها المجتمعون فهي أن أي تهديد تتعرض له إحدى الدول الثلاث سيتم التشاور بشأنه بين المسؤولين في هذه الدول والتنسيق في طريقة الرد على التهديد، وفي ذلك ما يعتبر نوعا من التحالف العسكري الواضح، دون أن يسمى تحالفا، في مواجهة الصين وكوريا الشمالية. ولكي لا يظهر هذا التعاون الثلاثي بمظهر التعاون العسكري البحت، فقد اتفق القادة على إعلان التنسيق والتعاون أيضا في مجموعة من الشؤون الإقتصادية والإنسانية والنسائية والشبابية والصحية، ولكن من المؤكد أن التعاون العسكري بين هذه الدول الثلاث يبقى حجر الزاوية الذي على أساسه عقدت قمة كامب ديفيد.
يعتبر هذا اللقاء انتصارا دبلوماسيا للرئيس جو بايدن بالذات على عتبة البدء بحملته الإنتخابية إذ أنه تمكن، بعد جهود طويلة ومتواصلة، من ردم الهوة القائمة بين اليابان وكوريا الجنوبية على خلفية العلاقات السلبية التاريخية القائمة بين هاتين الدولتين، وقد زار الرئيس الكوري يون طوكيو في شهر آذار/مارس من هذه السنة كما أن رئيس الوزراء الياباني كيشيدا قام بزيارة سيول في أيار/مايو الماضي. وبما أن اليابان كانت أقفلت ملف مطالبة الكوريين بتعويضات عن فترة احتلالها لكوريا الجنوبية، فإن الرئيس يون قرر تسديد هذه التعويضات من الخزينة الكورية نفسها، رغبة منه في تحسين العلاقات مع اليابان وصولا الى التحالف معها.
لقد أدى لقاء القمة الثلاثي في كامب ديفيد الى انتقادات ومواقف صينية منددة به إذ وصفته وزارة الخارجية الصينية بأنه “ناتو مصغرة”، خاصة فيما يتعلق باعتبار أي تهديد لإحدى هذه الدول بمثابة تهديد للدول الثلاث بما يشبه، إلى حد ما، المادة الخامسة من اتفاقية الناتو التي تقول أن أي اعتداء على إحدى دول الناتو يعتبر اعتداء على سائر الدول الأعضاء التي يتوجب عليها الدفاع عن الدولة المعتدى عليها. فردت الإدارة الأميركية على ذلك بالنفي قائلة أن هذا التعاون الثلاثي ليس ناتو مصغرة بل من شأنه تعزيز الأمن والإزدهار لشعوب هذه الدول الثلاث بصورة خاصة ولدول المنطقة والعالم. إلا أن البعد العسكري في هذا اللقاء، والإتفاقات العسكرية التي حصلت، والتنديد القوي بسلوك الصين “الخطير والعنيف”، لا يمكن تجاهلها إطلاقا.
ولا بد من الإقرار أن هذه القمة وما نتج عنها من قرارات ليست سوى محاولة أميركية واضحة لاحتواء ومواجهة التوسع الصيني في المنطقة وخارجها وللتقدم الكبير الذي أحرزته كوريا الشمالية في مجال السلاح النووي، علما أن التوجه نحو الشرق في السياسة الخارجية الأميركية والإبتعاد النسبي عن الشرق الأوسط بدأ أيام الرئيس الأسبق باراك أوباما عندما كان جو بايدن نائبه، وقد تم تعريف هذا التوجه في حينه بأنه “التحول نحو آسيا”.
جدير بالإشارة هنا الى أن هذه الدول الثلاث التي توافقت فيما بينها على هذه الإجراءات العسكرية هي دول ديمقراطية إذ يحصل فيها تبادل السلطة بالإنتخاب بصورة دورية. في كوريا الجنوبية ستجري الإنتخابات التشريعية في شهر نيسان/ابريل العام القادم، وفي اليابان في أوكتوبر 2025 وربما قبل ذلك، وفي الولايات المتحدة ستحصل انتخابات رئاسية وتشريعية في نوفمبر 2024، والرئيس يون في كوريا الجنوبية يلاقي معارضة قوية خاصة بسبب رغبته بدفع تعويضات الذين كانوا ضحايا الإستعمار الياباني من خزينة الدولة الكورية وهم يصرون على أن هذه التعويضات متوجبة على اليابان. وفي الولايات المتحدة هنالك احتمال غير مستبعد في الوقت الحاضر أن يفوز الرئيس السابق ترامب بالرئاسة. وفي ضوء هذه المعطيات، لا بد من التساؤل ما إذا كان التعاون العسكري بين هذه الدول الثلاث سيستمر في حال حصول تغيير في قيادة أي منها.
فعلى الصعيد الأميركي بصورة خاصة، معروف أن ترامب لا يحبذ إطلاقا مثل هذه التحالفات والإتفاقات وهو يرفع دائما شعار “أميركا أولا”، كما أنه لم يتأخر أثناء رئاسته في الإنسحاب من الإتفاقية النووية مع إيران، ومن شبه المؤكد أنه سيخرج الولايات المتحدة، في حال عودته الى الرئاسة، من هذا التحالف الثلاثي بالرغم من أن الرئيس بايدن يحاول إضفاء صفة الديمومة عليه.
وبالعودة الى القمة الثلاثية، من الضروري التوضيح أيضا أن الحرب الروسية على أوكرانيا لم تكن بعيدة عن تفكير الرئيس الأميركي بايدن أثنا التحضير لها، فالصين وكوريا الشمالية التي يحاول احتواءهما دولتان تؤيدان روسيا ومتحالفتان معها ويعتقد أنهما تمدانها بالأسلحة، فلذلك يعتبر التعاون العسكري مع كل من اليابان وكوريا الجنوبية انتصارا للولايات المتحدة في مواجهة روسيا خاصة وأن بعض المقربين من إدارة بايدن يروجون لشعار “أوكرانيا اليوم وتايوان غدا” تلميحا باحتمال قيام الصين في المستقبل القريب في تايوان بما قامت به روسيا في أوكرانيا وللحجج نفسها.
وفي الختام، إن الإنتصار الدبلوماسي الذي حققه بايدن للولايات المتحدة عبر هذه القمة من خلال جمع كل من طوكيو وسيول في مواجهة بيجينغ برعاية واشنطن يأتي أيضا على خلفية أن التبادل التجاري لكل من اليابان وكوريا الجنوبية هو أكبر ما يكون مع الصين، سواء من حيث الإستيراد أو التصدير وكذلك لجهة الإستثمارات اليابانية الضخمة في الصناعات الصينية، فلا بد من التساؤل عما يمكن أن تكون ردة الفعل الصينية على هاتين الدولتين بعد وقوفهما الواضح مع الولايات المتحدة في مواجهة المصالح الصينية نتيجة لهذه القمة الهامة.