بقلم: محمد منسي قنديل
خرج احمد ناجي من السجن بعد أن قضى عقوبته، ثلاث سنوات كاملة، جريمته كانت الابداع، مجرد فصل في رواية، كلا..بضعة اسطر فقط، كانت سببا في ذلك الاصرار الغريب من الجهة القضائية على زجه خلف القضبان، متعة سادية، جعلتها تتجاهل كل مناشدات الجماعة الأدبية والصحفية والحقوقية للأفراج عنه، أو على الأقل عدم ادخاله خلف السجن، لم تستجب لكل هذا المناشدات وتم القبض عليه في قاعة المحكمة التي ظن أنها ستؤكد براءته، وارغمته على ارتداء حلة السجن الزرقاء، واصبحت المشكلة الحقيقية الآنية هي كيفية الحفاظ على كرامته داخل السجن، كان لابد من جمع مبلغ من المال حتى يتم دفعه للمخبرين وامناء الشرطة الذين يشرفون على سجنه، اتاوة يعرفها كل من جرب السجن، لابد من دفعها حتى لا تساء معاملته، في السجن كل شيء له ثمن حتى الكرامة، واحمد ناجي بجسده الرهيف كما عرفته لم يكن يبدو قادرا على مواجهة المعاملة الخشنة، وهكذا بعد صراخ الرفاق والاصدقاء من اجل الافراج عنه، خفتت كل الأصوات وبدؤا يجمعون نقودهم القليلة ليقدموها قربانا للسجانين.
فصل غريب من رواية أكثر غرابة، خاصة وأن قضية ناجي قائمة على نشر فصل من رواية قديمة له بعنوان “استخدام الحياة” في جريدة “اخبار الأدب”، هذا هو كل حدث، مجرد نشر فصل في الجريدة التي يعمل بها، عملا من الخيال، مجرد رواية يمكن أن تقرأها أو لا، ويمكن أن تعجبك أم لا، مجرد كلمات، ليست سلاحا مشحونا، او عبوة متفجرة، أو حتى شعارات محرضة، كلمات مهما كانت بلاغتها لا تستحق كل هذا الاحتدام ولا هذه العقوبة القاسية، ولا اعتقد أن هناك قضية في التاريخ قد اقيمت على مثل هذه الدعوة الواهية، فقد تقدم مواطن لا يستحق أن يذكر اسمه ببلاغ يقول فيه: “أنه بسبب هذا المقال قد حصل له اضطراب في دقات القلب واعياء شديد وانخفاض حاد في الضغط، وقد خدش هذا المقال حياءه وحياء المجتمع”، بلاغ دون أي اثبات أو تقارير طبية تبين حالة هذا المواطن المرهف، ورغم ذلك أخذت النيابة البلاغ بجدية وحولتها إلى قضية، واستدعت المحكمة الأديبين صنع الله ابراهيم ومحمد سلماوي وجابر عصفور ليشهدوا أن هذه ليست مقالة، لكنها عمل ادبي يستخدم الخيال والاستعارة والتشبيه، لا يجنح للأثارة بقدر ما يحاول محاكاة الواقع، واقتنعت المحكمة بذلك وحكمت بالبراءة، ولكن النيابة لم تقتنع، اصرت على الاستئناف، كان وكيل النيابة اشد حنقا من الشاكي الأصلي ، فكتب في حيثيات حكمه “الاتهام ثابت على المتهمين وكافٍ لتقديمهما إلى المحكمة الجنائية بسبب ما قام به المتهم (أحمد ناجي) ونشره مادة كتابية نفث فيها شهوة فانية ولذة زائلة وأجر عقله وقلمه لتوجه خبيث حمل انتهاكا لحرمة الآداب العامة وحسن الأخلاق والإغراء بالعهر خروجا على عاطفة الحياء” إلى أن يقول: أن المتهم خرج عن المثل العامة المصطلح عليها فولدت سفاحا مشاهد صورت اجتماع الجنسين جهرة وما لبث أن ينشر سموم قلمه برواية ..”، اسلوب ركيك، وكلام مرسل مفعم بالحنق، ربما بسبب نزوعه النفسي، وتحفظه الأخلاقي ، ولكن هذا ليس مبررا لسجن الآخرين، فهو لا يقدم أي دليل على فعل واقعي قام به المؤلف يستوجب ادانته أو عقابه، لم يقدم سوى كلمات داخل رواية، ويمكن عقابه بالزجر أو التأنيب أو حتى مصادرة الرواية، ولكن الذي حدث أنه تمت مصادرة المؤلف نفسه ومازالت الرواية موجودة ومتاحة.
اغراء.. عهر.. اغواء.. كلمات بالغة الصعوبة، وآخر من يمكن أن تنطبق عليه هو احمد ناجي، أنه كاتب متعدد المواهب، واحد من شباب هذا الجيل المحتشد بالفن والالهام ولكنه لايجد الأرض الخصبة التي تحتضن بذوره، طارق أمام، احمد شافعي، احمد عبد اللطيف، محمد ربيع، العديد من الاسماء ومن بينها أحمد ناجي، ما تفعله هذه الاحكام القضائية المتعسفة أنها نخيفهم، تواجههم بعقول مغلقة، وتصدر ضدهم أحكاما مجنونة، وتترصدهم دون مناسبة، اذكر أنني تقابلت مع ناجي لمرة واحدة، كنت قد قرأت له قبل أن اراه، كنا نتحدث في الشارع، كان يحدثني عن اهتمامه بالموسيقى، هي عشقه الأول وليست الكتابة، كان اشبه بروح طليقة، والموسيقى هي الشيء الوحيد الذي كان يحتاج إليها ليهدئ من ذات نفسه، في هذه الاثناء جاءت فتاة شابة، تعمل في وكالة انباء اجنبية في بناية مجاورة، توقفت حين شاهدت ناجي، صافحته بحرارة واندفعت تتحدث بسرعة وبكلمات ناقصة الحروف، كعادة فتيات هذه الايام، لم ترني تقريبا، كانت تبدو مفتونة به، تشير إلى مكان مكتبها وتدعوه لزيارتها وتود أن تعرف إلى اين هو ذاهب، وكان رد فعله هو أنه اطرق خجلا، كان حييا في مواجهة اندفاعها، كانت هي تتمنى لو الارض انشقت وابتلعتني لتظفر بها وحدها، وكل ما فعله أنه تبادل معها كلمات خجلى ، واعطاها وعدا غامضا حتى تنصرف، ثم عاد ليتحدث معي عن الموسيقى، هذا هو الشاب الذي انهالت عليه النيابة بكل هذه الاتهامات البذيئة، والذي حكم عليه القاضي بالسجن عامين بتهم خدش الحياء.
قضية ناجي لا تعبر فقط عن محنة الابداع في مصر ولكن عن محنة القضاء أيضا، فهؤلاء القضاة لا يضعون القانون أمامهم وهم يتعامل مع قضايا الراي، لم يسمعوا عن الحريات التي وهبها الدستور لحرية الابداع ولا يبدو أنهم يعترفون بالدستور أصلا، يعملون الظن والاجتهاد الشخصي بدلا من الاستناد إلى نصوص محددة، ونرى ازدواجية الاحكام في قضايا مثل ازدراء الأديان وخدش الحياء وحرية الفكر، ففي قضية المفكر الاسلامي اسلام بحيري حكم قاض بتبرئته، بينما اصدر قاض آخر في القضية نفسها بالحكم بسجنه، الأمر نفسه حدث مع الكاتبة والشاعرة فاطمة ناعوت، فقد حصلت على حكمين متناقضين احدهما يبرئها وآخر يدينها، ومازال التهديد بالسجن سيفا مسلطا على عنقها، وكذلك الامر مع احمد ناجي الذي ذهب آمنا لقاعة المحاكمة بعد أن تلقى حكم البراءة فإذا بالقاضي يقبل النقض دون أن يحدث تغير في وقائع القضية، ويصدر حكما بإيداعه السجن، لا نريد أن نبكي على حرية الابداع في مصر فهي غير موجودة، ولا نريد أن نتحسر على المساحة المخصصة للفكر والاجتهاد فالقيود على العقل المصري اقوى من نتحرر منها، ولكننا فقط نريد درجة من المنطق في هذه الاحكام، نريد فقط قاض عادل يعترف بالدستور وينفذ القانون، لقد خرج ماجي من السجن حانقا ومرورا لينضم لقائمة طويلة من الحانقين.