بقلم: د. حسين عبد البصير
القرابين الفرعونية
كان الإيمان بالبعث والحياة الأخرى بعد الموت هو الدافع الأساسي كي يُقدِم الفراعنة ملوكًا وأفرادًا على تقديم القرابين إلى موتاهم سواء أكان ذلك عبر النصوص المكتوبة أو المناظر والنقوش المصوّرة داخل مقابرهم أو من خلال وضع القرابين والعتاد الجنائزي في مقابرهم بالفعل. وكانت هناك صيغة شهيرة تعرف باسم صيغة تقدمة القرابين أو «حِتب دِي نِسو» («قربان يقدمه الملك») باللغة المصرية القديمة. وكانت تتكون غالبًا من مجموعة محددة من الكلمات التي يمكن من خلال قراءتها تحقيق الإفادة الفعلية لروح المتوفى من خلال تفعيل القيمة السحرية للكلمة التي تتحول بالفعل إلى قرابين حقيقية بناءً على إيمان المصري القديم بقوة وفعالية الكلمة من خلال ترديد وتلاوة التعاويذ السحرية. وكانت صيغة تقدمة القرابين تُكتب عادة بالكتابة الهيروغليفية. وكان صيغة تقديم القرابين تأمل أن يتم تقديم القرابين الفعلية للموتى مثل تقديم العديد من أنواع الأطعمة والمشروبات والمؤن والاحتياجات التي يحتاجها المتوفى في العالم الآخر، أو من جلال التلاوة الشفهية لصيغة القرابين بكل ما تحويه من أنواع عديدة من القرابين بمختلف أنواعها، فضلاً عن تصوير القرابين المأمول تقديمها للمتوفى في شكل مناظر أو من خلال نقوش كان يتم التعبير عنها بالفن أو من خلال التعبير عن ذلك من خلال نصوص مكتوبة عبر استخدام الكتابة الهيروغليفية في تحقيق ذلك الغرض. وكان من المفضل أن يتم وضع القرابين الفعلية في المقابر في موضع الدفن والتي كان يتم تقديمها للمتوفى بواسطة بعض الأفراد من العائلة مثل الابن، أو من كان يقوم بدور الوريث للمتوفى، أو عن طريق بعض الأهل الذين كانوا يزورون المقبرة، أو عن طريق بعض أولئك العابرين الذين يمرون على مقبرة المتوفى، أو يرون أو يقرأون اللوحة الجنائزية الخاصة به.
وكانت صيغة تقدمة القرابين تبدأ عادة باالسطر التالي «القربان الذي يعطيه الملك وأوزير، الإله العظيم، سيد أبيدوس» ويأتي بعد ذلك ذكر اسم روح المتوفى الذي يتم تقديم القرابين وكان هو صاحب المقبرة أو اللوحة الذي كان يتطلع شوقًا وتهفو روحه لتسلم هذه القرابين في عالم الآخرة. ثم تستمر صيغة القرابين في التلاوة ذاكرة «لعله يتم تقديم قربانًا مكونًا من الخبز والجعة والثيران والطيور والألبستر والكتان وكل شيء جيد وطاهر مما يعيش عليه الإله». وكانت بعض الصيغ تذكر أسماءً أو أنواعًا غير متداولة في صيغ القرابين التقليدية مثل الزيوت أو الدهون العطرية والبخور والقرابين والمؤن والاحتياجات التي كانت تدخل أيضًا ضمن قائمة القرابين المقدّمة للمتوفى. وكانت هناك بعض الأنواع الغريبة من التقدمات في القرابين مثل تقديم القنفذ ضمن مائدة القرابين في أحد مناظر إحدى مقابر عصر الدولة القديمة.
وكانت القرابين أيضًا تُقدم إلى الآلهة. وكان يقوم بذلك الملوك أو من ينوب عنهم مثل كبير الكهنة أو من يمثله من خلال تقديم القرابين على موائد قرابين الآلهة المصرية داخل المعابد المصرية. وكان من المهام الضرورية للملك المصري القديم أن يقوم بتقديم القرابين للآلهة ومعابدها وإمدادها بها باستمرار.
وفي هذه العادات ما يذِّكرنا بزيارة الموتى في مصر المعاصرة وقراءة الفاتحة والقرآن على أرواحهم وتقديم «الرحمة والنور» على أرواحهم للفقراء والمساكين بعد الدفن وفي أيام الخميس والأربعين وفي الأعياد والمناسبات. إن مصر القديمة لم تمت، وإنما تعيش تحت جلودنا وفي عقولنا وبين أرواحنا.
حفائر سيناء
سيناء من أهم المناطق الأثرية المصرية. وبدأت شركة قناة السويس حفائرها في القرن التاسع عشر. وتحت الاحتلال الإسرائيلي، جرت حفائر غير قانونية في سيناء. ومع عودة سيناء إلى الوطن بعد انتصارات أكتوبر المجيدة، توالت جهود الأثريين المصريين في اكتشاف آثار سيناء بقيادة عالم الآثار المصري الكبير الدكتور محمد عبد المقصود وفريق عمله، مع البعثات الأثرية الأجنبية في مواقع شرق وغرب قناة السويس بالمدخل الشرقي لمصر ضمن مشروع إنقاذ آثار شمال سيناء (ترعة السلام).
وكان من بين الاكتشافات الأثرية المهمة التي توصل إليها الدكتور عبد المقصود وفريقه اكتشاف طريق حورس الحربي القديم الممتد من مصر إلى فلسطين منذ أيام الفراعنة. وتعد منطقة حبوة 1 وحبوة 2 وحبوة 3، شرق قناة السويس إلى شمال شرق القنطرة شرق، هي ثارو القديمة، وزارة الدفاع الفرعونية، التي صورها الفنان المصري القديم على النقش الخاص بالملك سيتي الأول على الجدار الشمالي الخارجي لصالة الأعمدة الكبرى بالكرنك. وكان هذا الموقع هو مدخل مصر الشرقي وبداية انطلاق الجيوش المصرية المحاربة في آسيا. وحاصر الملك أحمس الأول الهكسوس عند حبوة (ثارو) لقطع الإمدادات عن عاصمتهم أفاريس بالشرقية. وحمست عالمة الآثار الفرنسية كريستيان ديروش نوبلكور الأثري الشاب محمد عبد المقصود للقيام بهذا الاكتشاف عند بداية عمله في الآثار.
وعثرنا على اكتشافات أثرية مهمة في مواقع عديدة مثل تل حبوة 1 وتل حبوة 2 وتل حبوة 3 وتل البرج والتل الأبيض وتل الكدوة وتل المسخوطة وتل أبوصيفى (قلعة سيلا الرومانية) وتل دفنة وتل الحير ومدينة الفرما (بلوزيوم) وتل المخزن وغيرها. وتظهر هذه الاكتشافات عظمة وتاريخ العسكرية المصرية المشرف منذ الفراعنة. وكانت الاكتشافات عبارة عن خنادق وقلاع مدعمة بأبراج وموانئ وحصون عسكرية، تم الكشف في بعضها عن مخازن مركزية ومناطق صناعية ومراكز تموين الجيوش وصوامع غلال وأفران خبز ومساكن ومخازن وقصور ملكية خاصة بتحتمس الثالث ورمسيس الثاني وبسماتيك الأول، ومعابد ومدن محصنة وأسوار ومناطق سكنية ومقابر وتماثيل، على شكل أبو الهول للملك رمسيس الثاني، ولوحات حجرية منقوشة ومسارح وكنائس وأضرحة وخزانات للمياه وحلبة لسباق الخيول وغيرها.
وقامت هيئة الآثار المصرية (المجلس الأعلى للآثار بعد ذلك) باسترداد جميع القطع الأثرية المصرية المنهوبة من المواقع الأثرية في شمال وجنوب سيناء من إسرائيل. فتحية حب وتقدير لكل الجهود المصرية الوطنية المخلصة في الحفاظ على آثارنا واسترداد آثارنا الغالية.
عودة آثار مصر لمصر
تتواصل الجهود المصرية لإعادة عدد مهم من الآثار المصرية الشهيرة في الخارج مثل رأس نفرتيتي وحجر رشيد لمصر. وتأتي في المقدمة جهود عالم آثار الدكتور زاهي حواس في المطالبة باسترداد عدد كبير من كنوزنا المصرية. وأكد على ضرورة دعم جهود الدكتور حواس في هذا الملف الحيوي وهي جهود عظيمة وعلى الجميع دعم نداءات الدكتور حواس في هذا الملف المهم.
إن سرقة الآثار المصرية كانت منتشرة في مصر القديمة؛ فقد قام بعض اللصوص بسرقة مقبرة الفرعون الذهبي توت عنخ آمون وقام حراس الجبانة بالقبض عليهم ولولا هذا لما نجت مقبرة الفرعون الصغير وما اكتشفها هوارد كارتر في عام 1922 لتصبح أهم اكتشاف أثري في القرن العشرين في العالم كله، وكذلك هناك بردية سرقة المقابر من عصر الرعامسة والتي تتحدث عن سرقات بعض مقابر الفراعنة في البر الغربي لمدينة الأقصر في مصر الفرعونية. وبعد عصر الفراعنة زادت سرقات الآثار بشكل ليس له مثيل؛ وذلك نظرًا لأهمية آثار الفراعنة ومدى السحر والغموض والجمال الذي تحتويه آثار الفراعنة الساحرة. وصارت هناك عصابات دولية تقوم بسرقة الآثار وتهريبها والاتجار بها في الخارج، غير أن القبضة الأمنية لأجهزة الأمن المصرية مع وحدات المنافذ الأثرية في كل المنافذ المصرية والجمارك المصرية تحبط عددًا كبيرًا من كل هذه المحاولات التي تحاول استنزاف آثارنا المصرية الغالية. وتقوم الدولة المصرية من خلال التنسيق الكامل بين وزارة الآثار ووزارة الخارجية وعدد كبير من أجهزة الدولة المعنية بجهود كبيرة في استرداد الآثار المصرية من الخارج وتتأخذ عددًا كبيرًا من الإجراءات التي تحقق لها ذلك. وقام المجلس الأعلى للآثار في عهد الأمين العام الأسبق له الدكتور حواس باسترداد عدد كبير من الآثار المصرية من الخارج وذلك من خلال تأسيس الإدارة العامة للآثار المستردة وقامت باسترداد عدد كبير من الآثار تبلغ حوالي ستة آلاف قطعة من عدد كبير من الدول في عهده. وقام الدكتور حواس بتأسيس اللجنة العليا لاسترداد الآثار المصرية والتي كانت تضم عددًا كبيرًا من عمالقة الآثار والقانون الدولي والدبلوماسية والقانون وقامت بدور عظيم، وتوقفت بعد أحداث ثورة 25 يناير 2011 ثم عادت إلى العمل منذ فترة قريبة. وقد شرفت بالعمل في استرداد عدد من القطع الأثرية حين كنت أعمل مديرًا عامًا لإدارة المنظمات الدولية واليونسكو وكنت أساهم في العمل في الإدارة العامة للآثار المستردة.
ويمكننا الإفادة من آثارنا في الخارج من خلال التفاوض مع المتاحف والمجموعات الخاصة التي بها آثارنا للحصول على نسبة من مبيعات التذاكر والنماذج الأثرية التي يتم بيعها في الخارج من خلال تطبيق قانون حماية الملكية الفكرية عليها، ومن خلال هذا القانون فلابد من الحصول على موافقة مصر أولاً على الإنتاج ثم الاتفاق على نسبة من بيع النماذج المطابقة للأصل في الخارج، فضلاً عن الإفادة من عوائد المعارض الأثرية التي تقوم بها هذه المتاحف في الخارج، فضلاً عن ضرورة وجود ممثلين لوزارة الآثار المصرية في هذه المتاحف والهيئة التراثية وتمثيل الأثريين المصريين بشكل عادل في مجالس إداراتها.
إننا قادرون على استعادة آثارنا من الخارج. وقامت الإدارة العامة للآثار المستردة باسترجاع عدد كبير من الآثار من متاحف مهمة مثل متحف المتروبوليتان في نيويورك، وهي تقوم بدور مهم وفعال وتراقب كل صالات المزادات وتطالب بعودة آثارنا المسروقة بها من خلال التعاون الوثيق مع وزارة الخارجية المصرية وكل الجهات المعنية في الدولة المصرية العريقة.
وكم أنا سعيد جدًا بتغليظ العقوبات ورفع قيمة الغرامات المالية على من يقوم بسرقة الآثار المصرية وتهريبها وبيعها في الخارج، غير أني أدعو إلى اعتبار سرقة الآثار خيانة عظمى حتى يتم ردع كل من تسول له نفسه بسرقة آثارنا الغالية. حفظ الله مصر وآثارها الخالدة من السرقة وجعلها فخرًا لنا ولتاريخنا.