بقلم: د. حسين عبد البصير
إنقاذ آثار أبوسمبل
تمر السنون وتتعدد الأحداث ويسقط من الذاكرة عدد كبير من المشروعات سواء أكانت عظيمة أو غير عظيمة، لكن يبقى مشروع إنقاذ آثار النوبة، وخصوصا معبديّ أبو سمبل الكبير والصغير، من المشروعات الحضارية والثقافية الكبرى فى العالم أجمع فى القرن العشرين.
وبدأ التفكير فى ذلك المشروع العملاق بعد أن قررت مصر الشروع فى بناء مشروع السد العالى، وعلى أثر ذلك قامت مصر الدولة العظمى حضاريا والرائدة ثقافيا بامتياز، وساعدها فى ذلك دول العالم المتحضر آنذاك، بالحفاظ على تراث مصر الحضارى فى أرض النوبة العريقة من الغرق والضياع فى مياه بحيرة ناصر التى كونها السد العالى خلفه على مساحة شاسعة.
وسارعت الحكومة المصرية بتقديم طلب رسمى لمنظمة اليونسكو العالمية لإنقاذ آثار النوبة من الضياع الوشيك. ثم خاطبت منظمة اليونسكو بدورها الدول الأعضاء لبدء الحملة الدولية لإنقاذ آثار النوبة. وبالفعل قامت بعثات العديد من الدول بحفائر علمية منظمة واسعة النطاق، وتم تسجيل وترميم العديد من المواقع الأثرية، وتم إنقاذ وترميم آلاف من القطع الأثرية، وكذلك تكفيك ونقل العديد من المعابد الأثرية المهمة، وإعادة تجميعها فى عدد من المواقع الجديدة، وكان من بين أكثر المعابد شهرة فى هذا السياق معابد أبو سمبل الكبير والصغير وفيلة وغيرها من معابد النوبة العزيزة.
تاريخ مصر فى أرض النوبة
تعتبر أرض النوبة من أغنى المناطق الأثرية على ضفاف نهر النيل، وكانت توجد بها حضارات عظيمة، وعثر بأرضها الممتدة على العديد من البقايا الأثرية بداية منذ عصور ما قبل التاريخ مرورا بالعصور الفرعونية واليونانية-الرومانية والمسيحية والإسلامية ووصولا إلى العصر الحديث. وجفرافيا تمتد منطقة النوبة من جنوب مصر إلى عمق أرض السودان وتحديدًا من مدينة أسوان إلى الدبة على وادي نهر النيل الخالد. ويتحدث أهل هذه المنطقة الحضارية العريقة اللغة النوبية. وتقسم عادة النوبة إلى النوبة السفلى -والتى تمتد من الجندل الأول إلى الجندل الثانى على نهر النيل- والنوبة العليا التى تمتد فى أرض السودان الشقيق. ووفقا لعلماء الآثار والمؤرخين، فإن النوبة تمتد عادة إلى أواسط السودان لتشمل المناطق التى كانت تحت حكم دولة كوش المعروفة التى كان مقرها فى مدينتى ناباتا ومروي فى الألفية الأولى قبل ميلاد السيد المسيح وبعد ميلاده عليه السلام. وشغلت تلك المنطقة حضارات عديدة منذ عصور ما قبل التاريخ وتكونت بها ثقافات محلية مدهشة وامتد منها عبق الحضارة المصرية القديمة إلى أطراف وأعماق القارة الأفريقية. وفى عصور الدولة القديمة والدولة الوسطى والدولة الحديثة الفرعونية، شهدت منطقة النوبة وجودًا مصريًا متميزًا ومزدهرًا. وتشبع ذلك الجزء من النوبة بالحضارة المصرية القديمة مما أدى فى عصر الانتقال الثالث إلى قيام أهل كوش بالسيطرة على الحكم فى أرض النيل وتكوين ما يعرف بالأسرة الخامسة والعشرين مقلدين بذلك سير فراعنة مصر العظام أمثال الفرعون المحارب الملك تحوتمس الثالث والفرعون الشمس الملك أمنحتب الثالث ونجم الأرض الفرعون الأشهر الملك رمسيس الثانى. وبحلول العصر المتأخر، بسطت مصر نفوذها على أرض النوبة إلى أن دخلت الحضارة الفرعونية إلى مرحلة الذبول والنسيان. ومع دخول الإسكندر الأكبر أرض مصر، تحولت مصر إلى جزء من العالم الهللينستى، ثم ازدهرت مع عصر البطالمة، وصارت جزءا مهما من العالم الرومانى والبيزنطى ثم من العالمين المسيحى والإسلامى إلى وقتنا الحالى.
حملة اليونسكو لإنقاذ آثار النوبة
ونتيجة لبناء السد العالى بمدينة أسوان، كما سلف القول، فقد غمرت بحيرة السد مواقع أثرية مهمة وامتدت المنطقة التى ستغمرها مياه بحيرة السد العالى إلى مسافة كبيرة. وتنبهت الحكومة المصرية إلى الخطر الذي يحيق بآثار مصر فى بلاد النوبة، فما كان منها إلا أن تدق ناقوس الخطر وتدعو الأمم فى جميع أنحاء العالم بأن تمد يد العون لمصر للمساعدة فى إنقاذ آثار مصر فى بلاد النوبة لإنقاذ هذا التراث الخالد الذي لم يكن واجبا وطنيا يخص مصر العظيمة وحدها، بل كان واجبا إنسانيا يخص العالم أجمع. وكان لبناء السد العالى أكبر الأثر على تطور البحث الأثرى فى بلاد النوبة وقيام العديد من البعثات المصرية والدولية الأثرية بالتنقيب عن الآثار فى بلاد النوبة بكثافة غير مسبوقة. وقامت كل بعثة بإجراء أبحاث أثرية كاملة وتسجيل جميع نتائج الحفائر الأثرية التى كان يتم العثور عليها بكل دقة وعناية. وفى وقت وجيز، نجحت منظمة اليونسكو فى تكوين حملة عالمية للحصول على المعونات المالية اللازمة والخدمات والخبراء. وفى تلك المناسبة، أقيم حفل كبير فى المقر العام لمنظمة اليونسكو العالمية بباريس للإعلان عن النداء العالمى للإسهام فى حملة إنقاذ آثار بلاد النوبة.
ثروت عكاشة «أبو الثقافة المصرية»
ولم يكن لهذا العمل العملاق أن ينجح هذا النجاح الساحق أو حتى يتم التفكير فيه دون وجود قامات ثقافية مصرية عظمى نشأت ونبتت فى أرض مصر العاشقة والمعشوقة وعشقت أرض مصر الخالدة وأهلها وتاريخها وآثارها وحضارتها. فقد كان لرجال مصر العظام الدور الأساسى فى هذا الإنجاز الحضارى الكبير، ونذكر منهم بكل تأكيد وفخر واعتزاز الدكتور ثروت عكاشة والأستاذ عبد المنعم الصاوى والدكتور محمد جمال الدين مختار والدكتور شحاته آدم والدكتور عبد المنعم أبو بكر وغيرهم من الأسماء اللامعة العديدة التى لا تسقط من الذاكرة فى هذا العمل المحلمى الفريد. غير أن الفضل يرجع أولا وبشكل أساسى إلى دينامو العمل وشعلته التى لم تكن تخبو أبدا الدكتور ثروت عكاشة القامة الثقافية الكبرى فى مصر فى منتصف القرن العشرين وما بعده وفى حياة المصريين الثقافية. ويتضح من خلال كتاب الدكتور عكاشة المعروف «إنسان العصر يتوج رمسيس الثانى» أهمية الدور المحورى الذي بذله ذلك المثقف العملاق من أجل إقناع الزعيم الخالد جمال عبد الناصر بضرورة إطلاق حملة دولية لإنقاذ آثار النوبة ومساهمة منظمة اليونسكو العالمية فى هذه الحملة التى لم تكررها منظمة اليونسكو بهذا الشكل المذهل وبهذا النجاح غير المسبوق من بعد. واختار القدر أن يعتذر الزعيم المثقف جمال عبد الناصر عن حضور الاحتفال بنقل معبدى أبوسمبل إلى موقعهما الجديد وينيب عن سيادته الدكتور عكاشة الذي دخل التاريخ من أوسع أبوابه بهذا الحدث العظيم وأعماله الفريدة والمهمة الأخرى من أجل تأسيس بنية ثقافية قوية لأركان الثقافة المصرية، فكان بحق الأب المؤسس للثقافة المصرية ليزيد على معماره وزراء ثقافة مصر اللاحقون فى بناء وإعلاء صرح الثقافة المصرية من بعده حتى يصل إلى علاه ويتجه باستمرار إلى مبتغاه حيث حب الحق والخير والجمال. لقد كان نقل آثار النوبة ملحمة تاريخية مثيرة للإعجاب، وسوف يظل التاريخ يذكرها بأحرف من نور مسجلا بفخار أسماء البنائين المصريين العظام وعلى رأسهم المثقف الموسوعى والرائد المؤسس الدكتور ثروت عكاشة «أبو الثقافة المصرية» بامتياز.
معبدا أبوسمبل
تقع مدينة أبو سمبل إلى الجنوب من مدينة أسوان على الضفة الغربية لنهر النيل الخالد فى النوبة المصرية بالقرب من حدود مصر الدولية مع دولة السودان الشقيق. وبنى بأبوسمبل معبدان منحوتان فى الصخر يرجعان إلى عهد الفرعون الأشهر رمسيس الثانى من الأسرة التاسعة عشرة من عصر الدولة الحديثة الفرعونية.
وكان معبد أبو سمبل الكبير واحدا من أربعة معابد بنيت خلال فترة حكم الملك رمسيس الثانى كوحدة واحدة، والثلاثة الأخرى هى: معبد وادي السبوعة (مقر المعبود آمون رع) ومعبد الدر (مقر المعبود رع حور آختى) ومعبد جرف حسين (مقر المعبود بتاح). وقد أمر الفرعون رمسيس الثانى مهندسيه البارعين بالبدء فى بناء معبدى أبو سمبل فى السنوات الأولى من فترة حكمه العريق واكتمل العمل فيهما فى العام الخامس والعشرين من حكمه المديد.
معبد أبو سمبل الكبير
يطل معبد أبو سمبل الكبير على بحيرة ناصر فى منظر جمالى رائع قلما أن يتكرر فى مكان أثرى آخر حيث تتزاوج زرقة السماء الصافية بزرقة المياه الرائقة ورمال صحراء مصر الصفراء النقية بصخور المعبد الداكنة وخضرة الأشجار والنباتات الموجودة فى المنطقة بسمرة أبناء مصر المميزة. ويعتبر معبد أبو سمبل الكبير من روائع فن العمارة فى مصر القديمة. وتتصدر تماثيل الملك رمسيس الثانى الأربعة الجالسة واجهة المعبد التى تشبه الصرح ويبلغ كل تمثال من هذه التماثيل حوالي 22 مترا، ويحيط بهذه التماثيل تماثيل أصغر واقفة تجسد أم الملك وزوجة الملك، وتماثيل أكثر صغرا تصور أبناء وبنات الملك الممثلين واقفين بين قدمى الفرعون. وحدث زلزال فى العصور القديمة أثر على التمثالين المحيطين بالمدخل إلى المعبد مما أدى إلى تساقط الجزء العلوي من التمثال الجنوبى، بينما عانى التمثال الشمالى منهما بشكل أقل ضررا من التمثال السابق وتم ترميمه فى عهد أحد خلفاء الملك رمسيس الثانى، وهو الملك سيتى الثانى فى نهايات عصر الأسرة التاسعة عشرة. وفوق المدخل يوجد كورنيش ضخم يحتوي على اسم الملك رمسيس الثانى. ويضم جانب المدخل على اليسار نقشا يضم ألقاب الملك. ثم أجزاء المعبد المعمارية وصولا إلى قدس الأقداس حيث يوجد تمثال الملك رمسيس الثانى بين تماثيل آلهة مصر الكبرى فى تلك الفترة المهمة من تاريخ مصر الفرعونية.
ومن أروع معالم معبد أبو سمبل الكبير هو اختراق شعاع الشمس باب المعبد ليصافح وجه رمسيس الثانى مرتين من كل عام فى ظاهرة هندسية وفلكية تثير الانبهار باستمرار. ويؤكد هذا على عبقرية المصرى القديم التى لها أدلة كثيرة ما تزال تحير العالم كله إلى اليوم الحالى. وتعد ظاهرة تعامد الشمس على وجه تمثال الملك رمسيس الثانى بذلك المعبد المهم حدثًا فريدًا ينتظره عشاق مصر فى كل مكان فى العالم.
معبد الملكة نفرتاري
يقع معبد أبو سمبل الصغير أو معبد جميلة الجميلات الملكة نفرتارى إلى جوار المعبد الكبير الخاصبزوجها الفرعون الشهير الملك رمسيس الثانى.ومن أجل الجميلة نفرتارى بنى لها زوجها ذلك المعبد المتميز فى الصخر الطبيعى. ونحتت تماثيل عديدة فى واجهة المعبد تمثل الملك العظيم وزوجته الجميلة التى أبهرت العالم قديما وحديثا بجمالها وجاذبيتها وعذوبتها ورقتها التى لا تقاوم. ثم تتوالى الأجزاء المعمارية المكونة لهذا المعبد المهم. وصارت نفرتارى الزوجة الرئيسية للملك رمسيس الثانى، على الرغم من تعدد زيجاته ومحظياته. وكانت نفرتارى أم ستة من أهم أبناء الملك رمسيس الثانى. ومن فرط حبه الشديد لزوجته فائقة الجمال، أمر الملك المعظم بإنشاء مقبرة رائعة لها فيوادي الملكات.
وقد حملت منطقة وادي الملكات فى مصر القديمة أسماء عدة مثل «الوادى العظيم» و»الوادى الجنوبى» و»تا ست نفرو» ويعنى الاسم الأخير «مكان الجمال»، وشاع أكثر من الاثنين السابقين، وأسس فى البداية كجبانة مخصصة لدفن نساء الطبقة المالكة من المجتمع المصرى القديم فى بداية عصر الدولة الحديثة على الشاطىء الغربى لنهر النيل المواجه لمدينة الأحياء فى شرق طيبة (الأقصر الحالية). ولم تبدأ الحفائر العلمية المنظمة إلا فى عام 1903م، بوصول الأيطالى الشهير «إرنستو سيكياباريللى» (1856-1928م) -مدير المتحف المصرى فى تورينو-وحصوله على التصريح بالتنقيب فى الوادى من مصلحة الآثار، فنجح فى اكتشاف مقبرة الملكة الفاتنة نفرتارى، جميلة الجميلات.
ومنذ العثور على هذه المقبرة الجميلة، اعتبرت واحدة من أجمل المقابر التى أبدعتها مخيلة المصريين القدماء فكرا وأداء، فبلغت الرسوم المصورة على جدرانها وممراتها 520 مترا مربعا من الجمال الساحر. وحين اكتشفها سيكياباريللى فى عام 1904م، فتح الباب ليطل العالم على واحدة من أجمل الإبداعات الفنية فى العالم عبر تاريخ الفن البشرى الطويل، وعلى واحدة من أجل وأجمل المقابر القادمة من مصر الفرعونية ذات الرسوم التى تخلب الأبصار وتسحر العقول بجمال مناظرها وتنوع موضوعاتها ونقاء وصفاء ألوانها. وأصبح من المفضل عند عشاق الجمال الراغبين فى نشدان البهجة زيارة هذه المقبرة للنهل من جمالها الأخاذ، وأصبح الجمال علامة وعنوانا عليها وعلى صاحبتها، جميلة الجميلات، كما كانت الحال فى حياتها الأولى المليئة بالجمال والحب والسعادة والعشق وفى عهد مليكها العاشق الأبدى لها ولجمالها التى كانت تنافس به حتحور ربة الحب والجمال عند قدماء المصريين. وتحول الطموح الفنى الذي راود وساور صاحبتها ومبدعيها إلى حقيقة واقعة واضحة كوضوح الشمس فى كبد السماء فى نهار مشمس رائق العذوبة.