بقلم: د. حسين عبد البصير
الباب الثاني: السجون
عرفت مصر القديمة السجون!
كانت السجون في العالم القديم هي الأماكن التي كان يتم فيها إيداع وحبس المخالفين للقانون سواء أكانوا من المدنيين أو من أسرى الحروب أو من المنشقين السياسيين أو من المهرطقين أو من المارقين الخارجين عن الدين وغيرهم. وظهرت السجون في العالم القديم في مصر القديمة والعراق القديم واليونان القديم وروما القديمة.
ووردت إشارات عدة عن السجون في العديد من النصوص المصرية القديمة. ولعل أشهر ما ورد عن وجود السجون بالفعل في مصر القديمة ما جاء في قصة سيدنا يوسف عليه السلام في الكتب السماوية المقدسة، أي أن مصر القديمة قد عرفت السجون دون شك. وقد مكث سيدنا يوسف عليه السلام بضع سنين داخل السجن. وعندما ظهرت براءته خرج من السجن مكرمًا وفي عظمة تليق به عليه السلام. وهنا يتجلى بوضوح دور العدالة في إحقاق الحق ورفع الظلم عن المظلومين.
وتؤكد الحقيقة التاريخية والشواهد الأثرية أن مصر القديمة عرفت السجون مُنذ القدم. وقد كانت السجون مكانًا من أجل إعادة التأهيل ولإخراج المُذنب بعد فترة إلى المجتمع وهو صالح تمامًا ويستطيع أن يحيا حياة إنسانية كريمة مرة أخرى في ظل المجتمع المصري القديم الذي كان يقدس قيمة ومفهوم «ماعت» أو العدالة.
وقبل الحديث عن مفهوم السجون في مصر الفرعونية، يجب علينا الحديث عن العدالة في مصر الفرعونية والتي كانت مهمة للغاية. وكانت جزءًا لا يتجزأ من جميع جوانب المجتمع وثقافته. وكان القانون من الأمور الأساسية في حياة المصري القديم، خصوصًا أن مصر هي التي أبدعت القانون والنظام القضائي. واعتبر المصري القديم أن لقرارات المحكمة أكبر تأثير على حياة المجتمع، حيث كان يجب معاقبة الخارجين على القانون، وتقديم المساعدات للأطراف المتضررة. وكان يتم تعيين أفضل الرجال من مختلف أنحاء مصر كقضاة حتى يصلوا إلى تحقيق العدالة وتطبيق القانون.
سلطة الملوك
كان الملوك الفراعنة مسؤولين عن جميع الأمور القانونية في مصر. وكانوا في كثير من الأحيان يصدرون المراسيم ذات الطابع القضائي. وكان الوزير تحت الفرعون مباشرة، ويعمل كيده اليمنى. ووضع الفرعون الوزير على رأس الإدارة في مصر. وكان مسؤولاً عن النظام القضائي للدولة. وفوض الفرعون والوزير مسؤولياتهما القضائية والإدارية إلى المسؤولين المحليين.
ومنذ عصر الدولة القديمة (2686 – 2181 قبل الميلاد)، كانت مصر تُدار من قبل مجموعة من الموظفين المتعلمين، وهم الكتبة الذين اجتازوا المهمة الشاقة المتمثلة في تعلم القراءة والكتابة. وكان لطبقة الكتابة دور أساسي في ازدهار مصر. كما تطور القانون المصري ببطء شديد. وكان يمكن أن تظل القوانين سارية المفعول لفترات طويلة للغاية.
ومن هذا الوصف الواسع للهيكل الإداري لمصر، لا يمكننا أن نستنتج الطريقة التي كان يُمارس بها القانون في الواقع. وعلى الرغم من أن الحجم الهائل لمواد المصدر المتاحة لنا، فإنه لم يتم بعد العثور على أي مثال للقانون المصري المقنن قبل عام 700 قبل الميلاد.
وفي غياب وجود قانون مقنن، يجب علينا أن تستند معرفتنا بالقانون المصري في الواقع إلى وثائق أخرى متاحة، مثل العقود والوصايا وسجلات المحاكمة والمراسيم الملكية. وللأسف لم تصلنا هذه بأعداد كبيرة. ولحسن الحظ، فهناك استثناءات لهذا جاءت مجتمع العمال بدير المدينة في عصر الدولة الحديثة. وعلى مدار عدة قرون، أنتج سكان دير المدينة عشرات الوثائق التي تم أرشفتها. وتمتد السجلات التي خلفها هؤلاء العمال على مدار عصر الدولة الحديثة. وتقدم هذه النصوص معلومات عن الحياة اليومية لهم. وساهمت بشكل كبير في معرفتنا بالنظام القضائي المصري القديم.
ومن الصعب – استنادًا إلى نصوص مثل سجلات المحاكمة – أن نميز القانون الجنائي عن فروع القانون الأخرى. حيث لم يكن القانون الجنائي، معرَّفًا بوضوح داخل النظام القضائي المصري. لكن هناك طريقة أخرى لتحديد القضايا الجنائية بوضوح في النصوص القانونية من دير المدينة، وذلك من خلال تقييم العقوبات التي تم تنفيذها في الحالات المختلفة، حيث أنه ليس من الواضح أن كل التجاوزات كانت متساوية في العقوبة.
ويبدو أن السرقة كانت موجودة إلى حد ما في دير المدينة، فلدينا في السجلات الاتهامات والتحقيقات والعقوبات المفروضة. ومع ذلك فإن العقوبات لم تتجاوز العقوبات الاقتصادية حيث كان يضطر اللص إلى إعادة البضائع المسروقة. وكان يتعين عليه دفع تعويض يمكن أن يصل إلى أربعة أضعاف القيمة الأصلية للبضائع المسروقة. اما إذا كانت البضاعة المسروقة ملكًا للدولة، فتكون العقوبة أثقل بكثير. أما إذا كان المسروق ملكًا للفرعون، فكان اللص مٌطالبًا بدفع ثمانين إلى مائة ضعف الأشياء المسروقة بالإضافة إلى العقاب الجسدي مثل الضرب أو في حالات نادرة تصل إلى الإعدام.
والنصوص القضائية الصادرة من دير المدينة غير محسومة فيما يتعلق بالموقف القانون المصري من الزنا والاغتصاب، لكن بالتأكيد، كان المصريون ينظرون إلى كل من الاغتصاب والزنا كسلوك غير مشروع، حيث كان يتم التعامل معه في كثير من الأحيان من قبل المحاكم. أما فيما يتعلق بالأفعال الأخرى التي يمكن أن نطلق عليها سوء سلوك جنسي مثل المثلية والبغاء فلا يبدو أن هذه كانت جرائم جنائية. وكان الاعتداء الجسدي بالتأكيد جريمة يعاقب عليها القانون في المجتمع المصري القديم، وهناك بعض الحالات التي تم فيها إدانة شخص ما حيث تلقى الجاني عقوبة جسدية من نوع ما.
ماعت إلهة العدالة
كانت ماعت إلهة العدالة مبدأً إرشاديًا داخل المجتمع المصري القديم. وهذه «العدالة الترابطية»، أي العيش وفقًا لمبادئ «ماعت» كان مسؤولية جماعية، ومن ثم ليس من المستغرب أن تُعتبر نزاهة القضاة ذات أهمية استثنائية. حيث كان القضاة مسؤولين حكوميين، يمثلون الفرعون في المسائل القانونية والإدارية؛ لذا فإن أي سوء تصرف قضائي ينعكس بشكل مباشر على الفرعون؛ لذا تم اتخاذ جميع الاحتياطات لضمان نزاهة المحكمة. كما هو موضح في نصوص دير المدينة.
وقرب نهاية عهد رمسيس، تشكلت مؤامرة لاغتيال الملك بين واحدة من الملكات وعدد من رجال البلاط الملكي. وتضمنت المؤامرة العديد من النساء من الحريم الملكي، فضلاً عن عشرة من مسؤولي الحريم وزوجاتهم. وقبل تنفيذ الخطة، تم كشف الخيانة والقبض على جميع المعنيين وأمر الفرعون بملاحقتهم. وبما أنه لا يمكن معالجة قضية بهذا الحجم من قبل محكمة قانونية عادية، فقد تم تعيين لجنة خاصة تتألف من أربعة عشر من كبار المسؤولين للتحقيق في الجرائم ومعاقبة المذنبين.
وكانت المقابر – خاصة تلك التابعة للطبقة العليا – هدفًا للسرقة، وكان ذلك جريمة يعاقب عليها القانون، حيث وصلت عقوبة السطو على المقابر الملكية إلى الإعدام، والمحكمة الكبرى التي يرأسها الوزير هي التي تحكم بنفسها في حوادث السطو على المقابر الملكية.
على الرغم من أن معلوماتنا عن السجون في مصر الفرعونية قليلة، فيمكن القول إنه بناء على ما تقدم من معرفة مصر الفرعونية بمبادئ تحقيق العدالة، والحق فى الأمن والأمان، وإرساء مبادئ القضاء والعقوبات وإقرار القوانين وتنفيذ الأحكام، وكما سبقت الإشارة، فكان لابد من وجود مكان يوضع به المُذنب من أجل فصله عن المجتمع لفترة ما حتى يعود إلى رشده ويخرج بعد ذلك شخصًا صالحًا للعيش في المجتمع. وكان في تقييد حرية المذنب مجالاً لتهذيبه وإعادته إلى الصواب.
وعلى هذا الأساس، عرفت مصر الفرعونية عالم السجون. وكان السجن مهمًا داخل المجتمع الفرعوني. ووردت كلمة سجن في اللغة المصرية القديمة تحت اسم «إيتح» و»خنرت». وكلاهما ظهرا في سياق الحديث عن القلعة أو السجن. وكلمة «خنري» بمعنى «سجين». وحمل السجن الكبير في طيبة اسم «خنرت ور». وجاءت كلمة «خنرت» من الفعل « خنر» بمعنى «قيّد» أو «حبس».
قصة خوفو والسحرة
في «قصة خوفو والسحرة» الشهيرة، استفسر الملك خوفو، صاحب الهرم الأكبر بالجيزة من عصر الأسرة الرابعة، من الساحر جدي عن قدرته على إعادة رأس الإنسان المقطوع بسحره مرة أخرى إلى مكانها، فرد عليه الساحر، قائلاً: «نعم». فأمر خوفو بإحضار أحد السجناء حتى يستخدمه جدي. لكن الساحر رد قائلا: «ليس على رجل يا مولاي». فأحضروا للساحر إوزة، فقام بإلقاء تعاويذه السحرية، حتى فوجئ الكل برأس الإوزة ينفصل عن الجسم ويطير نحو سقف قاعة العرش، والكل ينظرون إليه بذهول عجيب غير مصدقين أن هذا يمكن أن يحدث أمام أعينهم. وبعد أن طار الرأس إلى أعلى، وجد المشاهدون الرأس يعود مرة ثانية ويلتصق بجسم الإوزة، ثم تجري خارجة إلى حظيرتها. ويمكن أن نستنتج من هذه القصة أن مصر قد عرفت السجون منذ عصر الدولة القديمة وفقًا لسرد الأحداث بهذه القصة. وفي تعاليم «مري كا رع»، جاءت هذه القيمة المهمة حيث يقول: «لا تقتل؛ فان ذلك لا يعود عليك بالفائدة، بل تُعاقب بالضرب والحبس».
وجاء عدد من الإشارات عن السجون في مصر الفرعونية من عصر الدولة الوسطى حين ذُكر أن الفراعنة كانوا يسجنون الخارجين عن القانون من غير المصريين. وكان سجن اللاهون في إقليم الفيوم واحدًا من أشهر سجون مصر الفرعونية. وعُثر به على قوائم بأسماء بعض السجناء.
وفي عهد الملك رمسيس الثالث تم اتهام بعض السيدات بالسرقة، وأدخلن السجن في مدينة طيبة. ولعل ما بين ما شاع في العصر المتأخر، وكان تقليدًا مختلفًا تمامًا، كان يتم اللجوء إلى العدالة الإلهية فى المعبد الكبير فقط، واُطلق عليه «باب العدالة»، وتصفه النصوص «أنه المكان الذي يُصغى إلى همسات المظلومين حيث يُحاكم الضعفاء والأقوياء على قدم المساواة، وإقامة العدالة ورفع الظلم».
ويمكن أن استنتاج أن بعض المعابد المُناط بها العدالة والقضاء ضمت سجونًا من أجل حفظ المتهمين فيها، منفصلة تمامًا عن السجون المدنية. ومما يشير إلى ذلك بردية تورين حيث نجد بها جملة «المساجين في المدينة بالمعبد»، وتُترجم أيضًا بـ «المساجين في المدينة والمعبد». وبالرغم من أنه لا يوجد شيء صريح يُشير إلى وجود السجون في معابد مدينة منف، فربما كان وجود تلك السجون شيئًا منطقيًا في ظل الدور الذي لعبه كهنة تلك المعابد باعتبارهم «قضاة العدالة»، وخاصة أنه توجد بعض الإشارات التي يُمكن أن يُستدل منها على وجود سجون مُلحقة بالمعابد الكبرى، وبطبيعة الحال كانت معابد منف، وخاصة العظمى منها.
ومن هنا، نخرج بالقيمة الإنسانية العظمى التي أبدعتها مصر الفرعونية لإصلاح الفرد من خلال الاحتجاز في السجون عبر إرساء مبادئ العدالة وتطبيق القانون.