بقلم / مسعود معلوف
سفير متقاعد
منذ حوالي عقدين من الزمن، لم يشهد لبنان عمليات حربية على أرضه، ولكن يبدو أن الأزمات السياسية المتتالية والمستمرة في السنوات الأخيرة أوقعت البلد في وضع وجودي خطير جدا، يمكن وصفه بأنه ربما أخطر على لبنان من أية حرب شهدها منذ تأسيسه.
يعتقد كثيرون، في الداخل اللبناني وخارجه، أن هنالك تدميرا ممنهجا ومقصودا لدولة لبنان الكبير التي احتفلت، منذ سنتين، بمرور قرن كامل على وجودها. وهذا الإعتقاد ناتج عما يرونه من تفتيت وتفكيك متواصل لمؤسسات الدولة، الواحدة تلو الأخرى، وفق تسلسل متسارع، دون أن يأخذ المسؤولون أية قرارات حاسمة لوقف هذا التدهور، بل يكتفون بتبادل التهم فيما بينهم، ثم يتعاونون ويتحالفون مع بعضهم البعض في الحملات الإنتخابية.
وما يحمل الذين يرون أن هنالك تدميرا ممنهجا لمكونات الدولة هو الأمور التالية:
1- الفساد
في شهر نيسان/إبريل 2018، عقد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مؤتمرا في باريس لمساعدة لبنان بمشاركة أربعين رئيس دولة ومدراء منظمات مالية دولية، وقد تم تخصيص لبنان في ذلك المؤتمر بمبلغ أحد عشر مليار دولار، شرط أن يقوم ببعض الإصلاحات واتخاذ بعض الإجراءات الآيلة الى محاربة الفساد المتفشي في مؤسسات الدولة وإداراتها. لم يتخذ لبنان أية خطوة عملية في هذا المجال وخسر المليارات وازداد الفساد تفشيا.
زار لبنان عدد كبير من كبار المسؤولين الدوليين من وزراء خارجية ورؤساء حكومات وممثلين عن جامعة الدول العربية والأمم المتحدة الخ… وكلهم طالبوا المسؤولين اللبنانيين باتخاذ الإجراءات التي من شأنها محاربة الفساد، ولكن دون جدوى لدرجة أن وزير خارجية فرنسا جان إيف له دريان، في خطاب له أمام مجلس الشيوخ الفرنسي، توجه الى المسؤولين اللبنانيين صارخا: “بربكم ساعدونا حتى نتمكن من مساعدتكم”.
(Bon sang, aidez-nous pour qu’on puisse vous aider)
2- تفجير مرفأ بيروت
حصل هذا التفجير في الرابع من شهر آب/ أوغسطس 2020، وحتى تاريخه لم يتم إنجاز التحقيق لتحديد المسؤولين عن هذه الكارثة العظمى التي قتلت أكثر من 240 شخصا، وجرحت وشردت الآلاف، ودمرت قسما من العاصمة، وقد تم رفع يد المحقق الثاني في هذه القضية منذ أشهر، ورفض عدد من المسؤولين المثول أمامه، مع العلم أن رفض الإستجواب يعني إما معرفة أمور لا يريدون الإفصاح عنها أو مشاركة في الجريمة، إذ أن الأبرياء لا يرفضون ان يتم استجوابهم.
3- النظام المصرفي
كان النظام المصرفي اللبناني من أفضل الأنظمة المصرفية في العالم العربي إن لم يكن في العالم ككل، حيث كان اللبنانيون المنتشرون في العالم وكذلك المواطنون العرب يودعون أموالهم في المصارف اللبنانية بثقة تامة، ويقومون باستثمارات هامة ساهمت كثيرا في دعم الإقتصاد اللبناني.
ولكن بصورة مفاجئة منذ سنتين، توقفت المصارف عن تسليم المودعين أموالهم، في الوقت الذي يقال أن كبار المسؤولين حولوا مليارات الدولارات خارج لبنان، وأموال البنك المركزي أصبحت دون الحد الأدنى المفروض، وهنالك اتهامات لحاكم مصرف لبنان بالقيام بعمليات هندسة مالية مشبوهة ساهم في إيصال الوضع المالي الى ما هو عليه الآن، يضاف الى كل ذلك إنهيار سعر صرف الليرة اللبنانية التي خسرت 95% من قيمتها وأصبحت نسبة الفقر في المجتمع اللبناني أكثر من 75% حسب صندوق النقد الدولي، وكل ذلك دون ان يتخذ المسؤولون خطوة واحدة في سبيل معالجة الوضع.
4- القضاء
القضاء هو إحدى أهم مؤسسات الدولة، وكثيرون يشككون الآن بنزاهته إذ أصبح تعيين القضاة يتم حسب الإنتماء الحزبي أكثر من الكفاءة، وتدخل السياسيين في عمل القضاء عطل مصداقيته، وقد توقف مؤخرا معظم القضاة عن العمل بسبب سوء أوضاعهم المالية، كما أن هنالك اتهامات واضحة بأن عمل العديد من القضاة أصبح استنسابيا ومتحيزا. ولا خطوات حكومية لمعالجة هذه الأوضاع المستجدة، والتحقيق في تفجير المرفأ خير دليل على ذلك.
5- السياسة الخارجية
البعثات اللبنانية التي يبلغ عددها 89 سفارة و 51 قنصلية عامة في مختلف أنحاء العالم لم تستلم منذ أشهر عديدة أية تحاويل مالية لتغطية نفقاتها التشغيلية من إيجارات ورواتب موظفين محليين ونفقات إدارية، كما أن الدبلوماسيين لم يستلموا رواتبهم منذ أربعة أشهر بالرغم من تخفيض الرواتب وتقليص النفقات الإدارية بنسبة كبيرة. فقط منذ أيام قليلة تم تحويل رواتب الدبلوماسيين عن شهر حزيران/يونيو. إن ذلك ينعكس، دون أدنى شك، على أداء الدبلوماسية اللبنانية وعلى تمكنها من المدافعة عن مصالح لبنان، كما أن ذلك سيحول دون تمكين السفارات من القيام بواجباتها تجاه اللبنانيين المغتربين لجهة إنجاز معاملاتهم، ما قد يكون له نتائج سلبية على علاقة المغتربين ببعثاتهم الدبلوماسية والقنصلية ويعرقل علاقتهم بالوطن الأم بعد أن كانت هذه البعثات همزة الوصل بين المغترب ولبنان. فهل المقصود تقويض علاقات لبنان بالعالم الخارجي عبر تعطيل عمل وزارة الخارجية التي تنفذ السياسة الخارجية اللبنانية؟
6- الخدمات العامة
الى جانب انهيار المؤسسات الإدارية الأساسية، نلاحظ أيضا انهيارا ملموسا في إدارة الخدمات العامة، إذ أن مؤسسة الكهرباء لم تعد تستطيع أن تؤمن الكهرباء لأكثر من ساعتين في اليوم، وهي تقدم الأعذار والحجج غير المنطقية لتبرير فشلها، وكذلك بالنسبة الى المياه، وصيانة الطرقات، وقطاع التعليم في أزمة واضحة وكذلك القطاع الطبي حيث المستشفيات في وضع يرثى له والأدوية شبه مفقودة من الصيدليات، هذا بالإضافة الى ما تعاني منه الإتصالات سواء في الخطوط الخليوية أو الخطوط الثابتة، والإنقطاع المتكرر في الإنترنت، كما أن المديرية العامة للأمن العام ليس لديها جوازات سفر لمنحها للبنانيين المضطرين للسفر لأي سبب كان، طالبة منهم التسجيل على منصة خاصة لهذه الغاية لطلب موعد من المسؤولين في الأمن العام لشرح أسباب الحاجة للجواز، ومن يتسجل يتم إعطاؤه الموعد بعد أشهر عديدة.
يضاف الى كل هذه الأوضاع عدم وجود حكومة فاعلة إذ أن الحكومة الحالية مستقيلة ومهمتها تقتصر على تصريف الأعمال، والرئيس المكلف بتشكيل حكومة جديدة على خلاف مع رئيس الجمهورية إذ كل منهما له شروطه غير المقبولة من الآخر، وقد دخل لبنان في مهلة انتخاب رئيس للجمهورية، والأفق هنا أيضا مسدود إذ يعتقد معظم اللبنانيين أن المجلس النيابي لن يتمكن من انتخاب رئيس جديد، والجدل الدستوري على أشده حول إمكانية تسلم حكومة تصريف الأعمال مهام رئاسة الجمهورية إذا شغر المركز.
بعد الإنهيار الذي نشهده في مؤسسات الدولة وعدم اتخاذ أي إجراء جدي من قبل المسؤولين لمواجهة هذا الواقع ومعالجته، لم يبق إلا مؤسسة الجيش صامدة وذلك بالرغم من الهبوط المأساوي في رواتب العسكريين، لدرجة أن دولا مثل قطر والولايات المتحدة، وربما غيرهما قريبا، ترسل أموالا الى الجيش اللبناني لتأمين حد أدنى من المساعدات المالية تجنبا لكارثة الإنهيار التام للدولة.
إزاء التجاهل الرسمي في محاربة الفساد وعدم قيام المسؤولين بحد أدنى من الإصلاحات التي تصر جميع الدول على تنفيذها من أجل تقديم المساعدة لإخراج لبنان من القعر العميق الذي هو فيه الآن، وإزاء استعداد صندوق النقد الدولي لتأمين قرض بقيمة ثلاثة مليارات دولار شرط إنجاز بعض الإصلاحات، ولكن دون أي تجاوب حقيقي من الحكومة اللبنانية، علما أن المجلس النيابي يحاول إظهار اهتمامه بإصدار قوانين إصلاحية ولكن دون نتيجة فعلية، خاصة فيما يتعلق بقانون رفع السرية المصرفية الذي لن يبصر النور بالشكل الذي يمكن أن يؤدي الى الشفافية المطلوبة بالرغم من إصرار صندوق النقد الدولي على إصدار هذا القانون، إزاء كل ذلك، أصبح من المشروع أن يعتقد كثيرون بوجود إرادة فعلية لتفكيك وتقويض الدولة اللبنانية، ويبقى السؤال الذي يطرح نفسه: من المستفيد من إيصال البلد الى هذا الوضع؟
الأفرقاء اللبنانيون يتهمون بعضهم البعض، كما أن كثيرين منهم يتهمون دولا خارجية بالتدخل في شؤون لبنان وخرابه، ولكن الواقع هو أن اللبنانيين جميعا مسؤولون عن هذا الإنهيار، وخير دليل على ذلك أنهم في الأنتخابات التشريعية الأخيرة، أعادوا الى المجلس النيابي معظم الزعماء والقادة الذين أوصلوا لبنان الى الخراب.
الاعتقاد السائد الآن في ظل هذه الأوضاع المأساوية هو أنه، في حال انفراط الجيش اللبناني الذي أصبح المؤسسة الوحيدة الصامدة في وجه الإنهيار، فإن ذلك يعني انتهاء لبنان بشكله الحالي دون أن يعرف أحد ما سيكون عليه مستقبل هذا البلد المفتوح على جميع الإحتمالات، من حرب أهلية، أو تقسيم، أو تغيير النظام، وما الى ذلك من تطورات محتملة لا يمكن لأحد التنبؤ بها.