بقلم: بشير القزّي
خلال منتصف صيف سنة ١٩٨٨ انتقلت الى المنزل الجديد الذي قمت بإنشائه في منطقة «بييرفون» من مونتريال. سكنته مع ان بعض أعمال التشطيبات لم تكن قد أنجزت بعد وقد تأخّرت بسبب العطلة السنويّة لعمَّال الإنشاءات والتي تأخذ أسبوعين من أواخر شهر تمّوز (يوليو) من كل سنة!
فيما استقللت سيارتي «الفولاريه» من نوع «بلايموث» الامريكية كنت لا أكترث كثيراً لقدمها وللونها الأزرق المعدني الفاتح والذي معكته أشعة الشمس حتى كادت تقضي على الطلاء! كان عليّ ان اقصد ذاك الصباح أحد الزبائن في منطقة «بونت كلير» القريبة.
في طريقي تذكّرت حادثة سير وقعت لي قبل سنة فيما كنت متّجهاً برفقة زوجتي وابنتي للمشاركة في احتفالات عرس إحدى الصديقات التي تزوجت شاباً يتحدّر من أصول إيطاليّة. ما ان توقفنا على أحدى الإشارات الضوئية الحمراء حتى صدمتنا من الخلف شاحنة صغيرة لم ينتبه سائقها لوجودنا أمامه!
بعد يومين او ثلاثة استدللت على احد الأمكنة المتخصصة بالحدادة واخذت السيّارة الى الكاراج المقصود الواقع على بولفار «كارتيه» في منطقة «لافال» لصاحبه من عائلة «الحلو». أوقفت السيّارة التي صدمت من الخلف ودخلت الكاراج حيث وجدت عاملين يعملان على إصلاح إحدى السيّارات. كان دويّ صوت كل مطرقة يصعّب الإنصات الى اي حديث. بين الصراخ والتأشير بالأيدي أفهمني أحدهما ان «المعلّم» موجود في المكتب الذي كان عبارة عن «تتخيتة» خشبيّة في عمق الكاراج يمكن الصعود اليها عبر درج خشبي بدائي الشكل والبناء. وكان للمكتب شباك زجاجي يطل على العاملين في الكاراج.
ما ان صعدت الدرجات وقرعت الباب حتى سمعت صوتاً من الداخل يطلب مني الدخول. كان رجلاً في بداية الأربعينات فاتح الشعر ممتلئ الجسم يقبع وراء مكتب حديدي قديم وعلى يمينه تلفون اسود قديم الشكل ومنصة أشبه بشاشة كمبيوتر مؤخرتها تمتد نحو الوراء اكثر من عرضها. بعد ان جلست على كرسي حديدي امام المكتب لاحظت انه يراقب الشاشة الصّغيرة وهو يكلمني ويقطع الحديث فجأة من وقت لأخر ليدير أسطوانة الأرقام على الهاتف ويطلب رقم وكيله ليتداول معه ثمّ يطلب منه شراء أو بيع أسهم معيّنة بعد مراقبة أسعار تداولها على الشاشة. فهمت منه انه يشغّل أمواله في البورصة وقد تمكّن من تحصيل مئات الآلاف من الدولارات بتلك الوسيلة وان هذا العمل يُدرّ عليه أضعاف ما يعود اليه من استثمار الكاراج!
وإذ كنت استرجع تلك الواقعة في ذهني وصلت الى مفرق بولفار «هايموس» على بولفار «سان جان». خفّفت قليلاً سرعة السيّارة لتأمين سيري وانا آخذ المنعطف وإذ بشاحنة كبيرة تعود لمؤسسة «إيتن» بألوانها الزيتية الداكنة تصدم سيارتي من الخلف. كانت الصدمة الجديدة اكبر من تلك التي حدثت معي من قبل!
بعد الاتصال بشركة التأمين واستئجار سيارة للتنقل مؤقّتاً قمت بأخذ السيّارة لنفس الكاراج الذي كنت قد قصدته سابقاً. كنت أفكّر في طريقي بصاحبه واسأل نفسي ما إذا كان يواظب على مهنة الحدادة والبويا أم أنه تخلَّى عنها نهائيّاً ليركّز على أعمال البورصة!
ما ان وصلت وصعدت الى «التتخيتة» حتى وجدته قابعاً وراء مكتبه وما زالت الشاشة تركن على يمينه بجانب ذاك التلفون الاسود. وفيما أخذت اسرد له وقائع حادثة السير الجديدة تحسّب لي ان اسأله عن نشاطه في ميدان البورصة والتي كنت لا أشكّ انه ما زال فالحاً فيها! وكانت المفاجأة بأن أخبرني أنه توقّف نهائيّاً عن التداول وقال: «الا تذكر الإنهيار المالي الذي حصل في أوكتوبر من السنة الماضية؟ لقد خسرت كل أموالي وأملاكي!» وتذكّرتُ بالفعل ذاك النهار الذي سُمِّيَ بالإثنين الأسود وذلك بتاريخ ١٩ أوكتوبر سنة ١٩٨٧ حيث انهارت الأسهم وذلك على النطاق العالمي!
بعد إتمام تصليح السيّارة واستلامها لا أدري ما حصل فيما بعد لصديقي صاحب الكاراج الّا أني لم أره بعد ذلك وقد أقفل ورشته بشكل نهائي!
في تلك الأثناء كنت قد استحصلت على سيّارة جديدة من نوع «غراند إم» مما أدّى الى وقائع جديدة لم أكن أنتظرها…
وللقصّة تتمّة…