بقلم: علي عبيد الهاملي
هل تذكرون أغنية أم كلثوم الشهيرة «يا مسهرني» التي كتب كلماتها الشاعر الكبير أحمد رامي ولحنها الموسيقار سيد مكاوي، أيام الزمن الجميل والفن الأصيل؟
كان الاعتقاد السائد أن قلة النوم أو عدمه مرتبطان بالعشق والغرام، أو الحالة العاطفية للأفراد. وكان البعض يعتقد أنها حالة صحية، كونها تحفز على الإبداع، مثل نظم الشعر والكتابة الأدبية الجميلة. لكن الدراسات الحديثة أثبتت عدم صحة هذه النظرية، ورأت أن مشكلة قلة النوم غدت مرض العصر لدى الكثيرين. ومن بين الدراسات الهامة التي بحثت في هذا الموضوع، كشف عدد من الخبراء الأستراليين عما يحدث بالضبط للجسم والعقل عندما لا يحصل المرء على قسط كاف من النوم في ليلة واحدة، حيث أوضح موقع “Sleep.org” أنه عندما يكون الناس مستيقظين، فإن الدماغ ينتج بنشاط مادة كيميائية تسمى الأدينوسين، وهي مادة تتراكم على مدار اليوم لتنتج عنها الرغبة في النوم عندما تصل إلى أقصى مستوياتها في نهاية اليوم. وأثناء النوم، يعمل الجسم على تخليص الإسان من هذه المادة الكيميائية، ما يساعد على الاستيقاظ والشعور بالانتعاش والانتباه، فإذا لم تنم جيدا، فقد تجد نفسك تقاتل «ضباب الدماغ» كنتيجة لعدم تطهير مادة الأدينوسين. فيما قال خبراء في مركز “Bed Threads” إن النوم المتقطع في ليلة واحدة له تأثير على وظائف المخ، وخاصة الذاكرة، حيث يقلل النشاط في مركز ذاكرة الدماغ الحصين، وهذا يعني أن من لم يحصل على نوم كاف بليلة سيجد صعوبة في حل المشكلات.
ولكن ماذا عن « نوم الجمال»؟ ربما يكون المصطلح غريبا، لكنه مصطلح يشير إلى أن الحصول على نوعية نوم جيد كل ليلة له تأثيرات إيجابية على المزاج والإنتاجية فضلا عن الحصول على مظهر أكثر جاذبية. والسبب هو أنه أثناء النوم، يعمل الجسم بجد لإنتاج نوع معين من هرمون النمو، وكذلك الخلايا المنعشة والإصلاحية، لكن في حال تقطع النوم بانتظام، فإن إنتاج الكولاجين يتناقص، ما يعني أن البشرة يمكن أن تفقد مرونتها وثباتها، وبالتالي فإن النوم يجعلنا نبدو بصحة جيدة وأكثر انتعاشا.
قلة النوم تؤثر أيضا، وفق الدراسات، على المنطق. وهو أمر له تأثير غير مباشر على العواطف، ويمكن أن تعزا الحالة المزاجية وعدم القدرة على تنظيم المشاعر إلى الحرمان من النوم، وهو أمر قد يؤدي إلى جملة من المشكلات المهنية المختلفة. وأخيرا فإن الأشخاص الذين يفشلون باستمرار في الحصول على قسط كاف من النوم معرضون لخطر متزايد للإصابة بأمراض مزمنة، بما في ذلك أمراض القلب والسكري وارتفاع ضغط الدم. ويرتبط الحرمان من النوم أيضا بمشكلات أخرى مثل زيادة الوزن والسمنة.
بعد هذه الجولة العلمية في أضرار قلة النوم، نعود إلى أغنية أم كلثوم الشهيرة، ونتساءل إن كان الشاعر الكبير أحمد رامي قصد من كلمات الأغنية بث أشواقه لمحبوبته أم الشكوى من اعتلال صحته، خاصة إنه يقول في أحد مقاطعها: «إسأل عن اللي يقضي الليل.. بين الأمل وبين الذكرى»، ثم يتساءل: «وهوّ العمر فيه كم يوم؟». ولكن أيًّا كان غرض الشاعر، فقد اعتبر النقاد الفنيون أغنية «يا مسهرني» واحدة من أكثر الأغنيات العاطفية تأثيرا في الجيل الذي تفاعل معها عندما غنتها سيدة الغناء العربي كوكب الشرق أم كلثوم عام 1972 بسينما «قصر النيل» في ثلاث حفلات، وبجامعة القاهرة في حفلة واحدة، ووصفها الأطباء لأصحاب القلوب الجريحة، وسهر معها الجمهور العربي في كل مكان خلال سبعينيات القرن الماضي، وما زال الكثيرون يسهرون معها حتى اليوم.
ورغم الدراسة العلمية التي تحذر من أضرار السهر، إلا أن بعض أنواع السهر ضرورية، مثل السهر على أمن الأوطان، والسهر على راحة المرضى في المستشفيات، والسهر من أجل تحصيل العلوم. وهنا يحضرنا بيت الإمام الشافعي الشهير:
بقَدرِ الكدِّ تُكتسبُ المعالي ومن طلب العلا سهر الليالي
ومثلما بدأنا بسيدة الغناء العربي أم كلثوم وهي تشكو من السهر، نختم بها وهي تردد من رباعيات الخيام، التي ترجمها أيضا إلى العربية الشاعر أحمد رامي ولحنها الموسيقار رياض السنباطي، الرباعية الشهيرة التي تدعو إلى السهر:
أفِقْ خَفيفَ الظِلِ هذا السَحَر
نادى دَعِ النومَ وناغِ الوَتَر
فما أطالَ النومُ عُمرأ ولا
قَصَرَ في الأعمارَ طولُ السَهَر
حيرتنا معها سيدة الغناء العربي وهي تشكو من قلة النوم تارة، وتدعو إلى ترك النوم تارة أخرى، وحيرنا العلماء معهم أيضا وهم ينصحوننا بعدم السهر، ولكن أيًّا كان الأمر فالنوم والسهر قراران شخصيان أحيانا وقراران جبريان أحيانا أخرى. ويبقى أنني أكتب هذا المقال قبل بزوغ الفجر بقرار شخصي كي أدرك موعد صدور الجريدة، وقرار جبري لأن أفكار المقالات لا تأتي عادة إلاّ في الجزء الأخير من الليل عندما يكون أغلب البشر نائمين.
حفظكم الله جميعا من أضرار السهر، ومتعكم بسهرة جميلة مع من تحبون أو ما تحبون.