بقلم: محمد منسي قنديل
اصبحت شاشة التلفزيون في مصر حافلة بكتل متواصلة من الاعلانات تتخللها فواصل قصيرة من المسلسلات وبرامج الثرثرة، المشكلة أن 99 % من هذه الاعلانات تعلن عن بضائع غير مهمة يمكن الاستغناء عنها بسهولة، اكثرها عن شركات الهواتف النقالة، وبعضها عن اصناف المشروبات الغازية ووجبات الاطعمة السريعة، اعلانات في معظم الأحيان غير مفيدة ، بل أن بعضها ثبت أاضراره بالصحة، والبقية المهمة من الاعلانات هي عن كومبونات فخمة لايسكنها سوى الاثرياءويمنع بقية الناس من دخولها إلا خدما، رغم ذلك فإن الاعلانات من النوع الاول لاتستفزني كثيرا، فهي مرحة وخفيفة الدم، تمزج الكلمات بالموسيقى وتطل منها بعض وجوه الفتيات الجميلات، ولكن هناك إعلان وحيد منها يستفزني أكثر من غيره ويجعل دمي الهادئ يفور، اعلان جاد ومتجهم ويتظاهر أنه يقدم لنا معلومات جادة علينا أن نعرفها ونفخر بها، يتحدث عن أحدى المؤسسات الصناعية في مصر التي تطورت من الستينات حتى الآن، وهو شيء يجعلنا نشعر بالامتنان فنحن في أمس الحاجة إلى عشرات المصانع التي تنتج وتحول المواد الخام إلى قيمة مضاقة وتستخدم العشرات من الأيدي عاملة، وهذا المصنع بالذات ليس خفيا عن الأنظار، فهو موجود على الطريق الزراعي قبل القاهرة بعدة كيلومترات، ورغم ضخامته وطوال عمره فهو غير كامل وسيظل غير كامل، فهو يعتمد في كل منتجاته على تجميع الأجزاء من الخارج، من اليابان والدول التابعة لها، وقد بدأ منذ حوالي خمسين عاما بتجميع أجزاء التلفزيون ثم اجزاء من الثلاجات والغسالات والمكيفات، تكنولوجيا اصبحت بدائية، لم يعد العامل الياباني يقوم بها لأن اجورها عادية بالنسية له ولأنه يدخر جهده للتكنولوجيا الأكثر تطورا وتعقيدا، أي أن هذا المصنع لا يقود العملية الانتاجية في شكلها المتطور، ولكنه جزء صغير منها، مجرد وسيط يقوم بالجزء الأصغر والاقل مهارة، ورغم مرور نصف قرن لم يستطع أن يبتكر أو يطور جهازا خاصا به يمكن أن يضع عليه علامته التجارية الخاصة، ماركته المسجلة، الدليل على فكره وابداعه وتطوره الذاتي.
يقدم الإعلان الجديد عددا من العلامات التجارية العالمية بدعوى أن المصنع المصري شريكا لها، ويستعين ببعض الوجوه الاسيوية والاوربية، مع حديث فخم عن أهمية الدور الذي قامت به الشركة في مجال التنمية البشرية، وهو امر جيد ولكنه لا يستأهل كل هذا التفاخر، فهو لم يحسن استغلال العقول التي تعمل عنده وظل قانعا بدور الوسيط دون ان يحاول أن يكون مستقلا، اكتفى فقط بإنتاج الأشياء البسيطة، وظل يعتمد على استيراد الأجزاء دون أن يفكر هو في إقامة معمل ابحاث خاص به، يوظف فيه العقليات المصرية النابهة بحيث تقوم بفكها ودراسة هذه الأجزاء وعمل بدائل محلية لها، فالصناعة الحديثة ليست اكتشافا في الفراغ، ولكنها عملية متواصلة من تطوير المنتجات السابقة، لم يلجأ صاحب هذا المصنع للطريق الصعب، أكتفي بمكسبه المتواضع كوكيل عام، دون أن يضيف لمصر تكنولوجيا مبتكرة، أو علامة تجارية تعزز وجودها، وظل طوال النصف قرن في نفس المستوى المتدني من العملية الانتاجية، وهذه مأسة الصناعة في عالمنا العربي، نحن لا نبتكر ولكن نتبع، لا ننتج ولكن نستهلك.
عندما قمت بزيارة كوريا الجنوبية منذ عدة أعوام، اكتشفت كيف أن هذا البلد الصغير قد قبل التحدي وتحول إلى القوة الاقتصادية الخامسة في العالم، لقد استطاعت كوريا، رغم التهديد المستمر من جارتها الشمالية، ومساحتها الصغيرة، وندرة المواد الخام في أراضيها، أن تعبر من عنق الزجاجة، وأن تحول شركاتها التي كانت مجرد اقزام في مجال الصناعة، تعتمد على انجازات التكنولوجيا اليابانية إلى شركات مستقلة وعملاقة، قبل كل شيء كانت هناك الإرادة السياسية القوية، فقد جاء الرئيس “بارك” إلى الحكم، في تقريبا في الوقت نفسه الذي أمسك فيه مبارك بزمام الحكم في مصر، ولكن شتان بين الرجلين، أحدهما حاكم مدني جاء للحكم عن طريق الانتخابات في وقت كان اقتصاد كوريا يقارب اقتصاد السودان، ولم يكن أمامه إلا الاستعانة بالمجتمع المدني ونفخ روح المستقبل في الصناعة الكورية ودفعها للأمام، والقائد الثاني جاء من معسكر العسكر كما تعودوا أن يأتون، استولى على الحكم وفق قوانين الوراثة دون أي كفاءة شخصية ودون معرفة بطبيعة العصر وحول مصر إلى حفرية من مخلفات الماضي، كان “بارك” واحدا من أهم الشخصيات القيادية في القرن العشرين، جمع حوله رجال الأعمال ورسم لهم خطة للاستقلال الصناعي والاقتصادي، لم يخف منهم ولم يبال بتأثيرهم على قراره السياسي، كان المهم ان ينسلخوا من التبعية الاقتصادية ويكونوا صناعتهم الخاصة، ولم يكن أمامهم غير اتباع طريق البحث العلمي، كل مؤسسة يجب أن يكون لها مراكز البحث الخاصة بها، وقام “بارك” بتقسيم كوريا إلى اربعة اجزاء، قسم مختص بالصناعات الثقيلة، وقسم ثان لصناعة الالكترونيات، وقسم للصناعات الحيوية والدوائية، وقسم لتطوير منتجات الزراعة والصناعات الخفيفة، ومن يزور جامعة “سيول”، وهي بخلاف جامعة القاهرة التعيسة الحظ التي لا مكان لها في التصنيف العالمي، واحدة من أهم الجامعات البحثية في العالم، يتبعها مجمع ضخم يحتوي على العديد من مراكز البحث المتخصصة، كل واحدة من الشركات الكورية اقامت معملا على نفقتها وأهدته إلى الجامعة مع مواصلتها بالانقاق عليه، ويطلقون على هذا المجمع “هارفرد سيول”، تشبها بجامعة هارفرد الأمريكية، ومهمته ليس تطوير الصناعات فقط، ولكن ادخال صناعة جديدة للبلاد كل خمس سنوات.
أنه تحدي المستقبل الذي نحن عاجزين عن قبوله، فالمؤسسات الصناعية الخاصة تكتفي بدور التابع والوسيط، بينما المؤسسات الحكومية الضخمة تنهار بسبب الفساد وسوء الإدارة، فلم يفعل نظام مبارك أكثر من أنه اعطى المصانع المصرية لحفنة من اللصوص لا زال معظمهم موجودا ومتحكما فيها حتى الآن، قتلوا شركة النصر للسيارات واغرقوها في الديون، واصابوا صناعة الغزل والنسج بالشلل وأطفأوا نيران أفران الحديد والصلب وحولوا مصر إلى بلد كسيح لا تملك حتى قوت يومها، العديد من الدول امتلكت مصيرها، ليست كوريا فقط ولكن الهند وايران وتركيا، كلها بدأت من نقطة البداية نفسها، ولكنها انطلقت إلى افاق أخرى أكثر تقدما وتحررا بينما ظللنا نحن في مكاننا، ينخر في عروقنا فساد خبيث كالسرطان يجعل كل مؤسساتنا العامة تنهار وتتحول إلى انقاض بائسة، ومؤسساتنا الخاصة مشلولة وعاجزة عن التطور.