بقلم : نعمة الله رياض
قصتي مع عمي أنيس ، قصة تستحق السرد ، ليس لإنها غريبة ، لكنها قصة عادية تحدث كل يوم في عالمنا المترامي الأطراف ..تحدث لجميع الطبقات ، الغنية أو الفقيرة ، المتعلمة أو الغير متعلمة ، تحدث لجميع الأعمار والأجناس، ذكورا» كانوا أم إناث …
كان عمي أنيس يقطن هو وزوجته وابنته في الشقة المقابلة لشقتنا، وكنت أعيش مع أبي وأمي وأخي الأصغر في علاقة طيبة للغاية مع عمي وأسرته ، كنا عائلة واحدة يرأسها عمي بإعتباره الشقيق الأكبر..
شغل عمي أنيس وظيفة مرموقة في وزارة الخارجية ، ولإتقانه اللغتين الإنجليزية والفرنسية ، فقد أتيحت له الفرصة للسفر عدة مرات للخارج بحكم عمله ، وكانت زوجة عمي ناهد مدرسة للكيمياء في مدرسة خاصة في حي قريب من الحي الذي نسكن فيه ، بينما تخرجت توا»ماجدة إبنة عمي من كلية الإعلام ..
وبالرغم من مشاغل عمي الكثيرة والمكالمات التليفونية العديدة التي تلاحقه حتي بعد عودته للمنزل ، إلا انه كان يجد الوقت لدعوتي إلي شقتة للعب الشطرنج الذي كنا نعشقه ، وكان يطلب من إبنته ماجدة إعداد وتقديم القهوة والشاي طيلة المبارة أو المبارتين حسب وقته .. وكان عمي بارعا» في اللعبة وقلما كنت افوز في مباراه معه ، ولكن للحق يقال ، فلكي أفوز، كان يرشدني للحركات المثالية ردا علي حركاته الهجومية ، وكنت أعتبر ذلك تدريبا» مفيدا»..وأحيانا» كانت ماجدة تجلس معنا تراقب اللعب ، وكان ذلك يزيد إعجابي بها .. وعندما واتتني الشجاعة لأصارحها بحبي واستعدادي لطلب يدها من عمي ، فوجئت بها تخبرني أن والدتها قد رشحت لها عريسا» يعمل مدرسا» في المدرسة التي تعمل بها ، وقد حصل علي عقد عمل مغري في إحدى دول الخليج ، ورتبت الأم لقاءا» بينهما خارج المنزل ، وقد حاز العريس قبولا» منها .. وهكذا تم الزواج سريعا» ، وسافرا لبدء حياتهما الجديدة ..
لم تقتصر مفاجآت القدر علي ذلك ، فبعد عدة أسابيع وفي يوم حزين ، فوجئنا بوفاة زوجة عمي ناهد إثر حادث تصادم أثناء قيادتها للسيارة علي الطريق السريع ، كان وقع الصدمة شديدا» علينا وبالأخص علي عمي الذي أصبح الساكن الوحيد لشقته.. لم يكن أمام عمي سوي أن يدبر معيشته معتمدا» علي نفسه ، رغم عرضنا عليه أن نستضيفه في حجرة بشقتنا، فإستعان في ذلك بمدبرة للمنزل تتولي الطهي والغسيل والنظافة .. وبدا إنه قد أخذ يتأقلم علي الوضع الجديد ، رغم ما لاحظته عليه من كآبه وحزن دفين أثناء لعبنا المعتاد للشطرنج .. جاء الوقت الذي أحيل عمي إلى التقاعد ، فتكون هي القشة التي قصمت ظهر البعير ، يعود منزويا إلي شقته ، وينسحب تدريجيا» من بيئة العائلة والمجتمع ،ويعاني من الفراغ ، وتثاقلت خطواته وتباطأت حركاته ..
لكن ما أثار قلقي ، إنني لاحظت بعد فترة تناقص تركيزه في لعب الشطرنج عن المعتاد وأكثاره من شرب الشاي والقهوة ، وأصبح عصبيا في تعامله، وكان أحيانا» إذا خسر مباراة شطرنج ، يطيح بالقطع المتبقية علي اللوحة بيده علي الأرض ..
وكان يتصرف أحيانا بغرابة .. فكان لا يتذكر أين وضع نظارته الطبية ويمضي وقتا» طويلا» يبحث عنها في أنحاء الشقة ، وفي بعض الأحيان كان يبحث عنها وهي مثبتة علي وجه !! وأحيانا» ينسي ما فعله منذ وقت قليل ، فيضيف كمية أخري من السكر لكوب الشاي ، مما يجعل الشاي زائد التحلية فلا يشربه .. أو يطلب من أخي إيهاب إحضار حافظة نقودة من درج المكتب فيأخذها منه ويضعها جانبا وبعد برهة يطلب من إيهاب حافظة النقود ! ، مما يثير عجب وغضب أخي .. في لحظة صفاء ، صارحني إنه يعرف إنه مريض بمرض لا شفاء منه، ويشعر أن مخه قد تشوش ويحس أحيانا» بتوهان في تفكيرة فلا يعرف أن الوقت صباحا» أو مساءأ ، ومع ذلك فانه يتشبث بكل لحظة من حياتة ليدرك أنه ما زال علي قيد الحياه ..
ذات ليلة ، وفي ساعة متأخرة سمعنا رنينا» متواصلا» لجرس الباب ، وفوجئنا بعمي يقف في الخارج يطلب دخول دورة المياة في شقتنا لإنه لم يجدها في شقتة !! ، بعدها أصر أبي أن نستضيفه في حجرة أخي إيهاب علي أن يشاركني أخي في حجرتي .. وهذا ما أثار أخي إيهاب أكثر علي عمي بإعتباره دخيلا» علي أسرتنا..
ورغم معارضة عمي الشديدة ، إستعان أبي بممرضة تحضر صباحا» وحتي غروب الشمس لتساعد عمي في تناول الطعام والأدوية في مواعيدها ومساعدته في إرتداء ملابسه ، إلي آخر تلك الأشياء التي يجد عمي صعوبة كبيرة في آدائها..
أصبح عمي فردا» من الأسرة يجلس معنا علي مائدة الطعام ويشاهد معنا التلفزيون ، وفي مرة عندما جلسنا لتناول طعام العشاء، قال : ألا يجب أن تنتظروا حتي تحضر زوجتي ناهد ؟!! وفي أوقات كان ينتعش ويشعر بالمرح ، فيقف في وسط الحجرة ويرقص وهو يغني أغنية قديمة جدا» : إرخي الستارة وأقعد لآعبني .. دا المزة طازه والحال عاجبني !! مسكين عمي ، أصبح علي هامش الحياة ، لا نفع منه ، يخوض في معاناة مؤلمة ، عاجزا» عن الإدراك ، ويتوكأعلي الآخرين ..
تمر الأيام وتضمحل فيها ذاكرته رويدا» رويدا» حتي انه نسي قواعد لعبة الشطرنج ، بل انه نسي فيما بعد أن هذه اللوحة وفوقها قطع الجيشين الأبيض والأسود تسمي شطرنج !! لكنه كان يكافح بكل قوته ليحتفظ بما تبقي من ذاكرته ، سألني ذات مرة : إسمي أنيس .. أليس كذلك ؟ قلت له : نعم يا عمي، قال : أرأيت ، أنا لست مجنونا» بعد !! لكن في ليلة دخلت حجرته لأطمئن عليه فوجدته يحاول بدون جدوي إرتداء بذلته، فسألته : إلي أين أنت ذاهب يا عمي في هذه الساعة المتأخرة؟ اجاب: عندي إجتماع في الوزارة ، من فضلك أطلب لي تاكسي!!
كنا نغلق باب الشقة بالمفتاح خشية أن يخرج عمي ليلا» للشارع ، وذات ليلة ، سمع أخي إيهاب أثناء نومه أصوات عند باب الشقة فخرج يستطلع الأمر ، فوجد عمي يحاول فتح الباب وهو يتبول في ملابسه وعلي أرضية الشقة ، فثار إيهاب
وأسرع الخطي إليه وهو يصرخ : ماذا تفعل ؟ هل حولت الشقة لدورة مياه؟ وصفعه علي خده وهو يصيح : لقد طفح الكيل بنا من قذاراتك .. لقد علمت عن فضائحك في الوزارة ، وإنك كنت تتحرش بالموظفات ، وكن يخرجن من مكتبك وهن يصلحن ما يرتدون من ملابس .. هل هذا صحيح ؟ هز أنيس رأسه بالنفي وهو يحمي وجهه بيديه ويبكي ويصرخ كالأطفال وينادي علي زوجته ناهد أن تحضر لتحميه !! ، إلي أن إستيقظنا جميعا علي الضجة ، وخلصنا عمي منه ..
تدهورت حالة عمي بسرعه ، إشتعل الشيب فى شعر رأسه وبدأ فى التساقط، وتجعد جلده وتثاقلت خطواته وإنحني ظهره وتكاثرت عليه الأمراض ، وتمر الأيام عليه بطيئة رتيبة ، تختفي فيها ذاكرته تماما» وينسى أسماء الأشياء ، وأسماء المقربين إليه وحتي إسمه !! ، ثم يستقر تماماً على الفراش ويتولى من حوله إطعامه بل ومساعدته فى قضاء حاجته ويتحول أخيرا إلى كومة من اللحم تتنفس بصعوبة .. ثم يموت ، وهو لا يعلم أنه يموت .. كورق الخريف الجاف تنزعه الرياح من غصن الحياة ، فيهبط متأرجحا نحو الأرض ليتوسدها ويغطيه التراب ..