بقلم: محمد منسي قنديل
للأسف أنا بومة، الليل هو موطني الاصلي، اظل ساهرا معظم ساعته، ولا استيقظ إلا متأخرا، رغم أنني لا أملك سمع البومة المرهف، ولا حدقتيها المستدرتين اللتين تجعلها تخترق حجب الظلام، لكن افكاري لا تصفو ، ولا تكف عن التشتت إلا في أوقاته، حتى جهدي العقلي لا يكتمل، كل الأشياء التي لا افهمها في النهار، لا تضح معالمها إلا ليلا، على العكس تماما من الناس الذين يشبهون “القبرة”، اشد الطيور تبكيرا واكثرها نشاطا، ما أن يستيقظ هذا العصفور الصغير حتى يبدأ في الغناء المتواصل ليستيقظ الكون كله، وينبعث في عروقه نبضات الحياة، إلى هذا الصنف من الناس تنسب كل الفضائل، ارسطو هو الذي قال: الذين يستيقظون قبل بزوغ الضوء هم القادة، ومؤخرا بدأ الالحاح على الذهاب للعمل مبكرا، واصبح إفطار العمل بديلا عن عشاء العمل، وعقد المؤتمرات في النهار المبكر. أنا مثل كثيرين غيري من الكتاب العرب أكتب في ساعات الليل، احاول جاهدا أن اكتب شيئا ذا معنى اثناء النهار ولكني لا أنجح دوما، عمنا الكبير نجيب محفوظ رحمه الله، كان له موعد ثابت للكتابة في مساء كل يوم، من السادسة حتى التاسعة، مع اجازة شهرين كل عام بسبب حساسيته للرمد الحبيبي، ورغم ذلك فقد صنع هذا الهرم المتميز من المؤلفات في هذه الساعات الثلاث، ولكن الأمر على العكس من ذلك مع بقية المؤلفين في الغرب، النهار عندهم دائما للعمل، والليل للراحة والمتعة والنوم، جون شتيانبك، الأديب الأمريكي الأشهر، كان “قبرة” اصيلة يستيقظ مع الضوء الأول للنهار، ويأخذ في بري اقلام الرصاص، عشرة اقلام كل يوم، ويبدأ بكتابة الرسائل، عشرات الرسائل لكل من يعرفهم، ولمن لايعرفهم إلا بشكل عابر، ترك خلفه آلاف الرسائل، ربما اكثر من صفحات الروايات التي ألفها، سقطته الكبرى حين خالف ضميره الاخلاقي وأخذ يتغزل في جنود الجيش الامريكي الذين كانوا يحرقون قرى فيتنام بالنابالم كل صباح، أما ماركيز وهو واحد من اعظم ادباء عصرنا، كان يجلس إلى مكتبه كل يوم من الثامنة صباحا إلى الثانية ظهرا، حتى في أيام الآحاد، الكتابة عمل مقدس، والانضباط يخلق الابداع، كنت اتمنى أن اكون من هذا النوع المنضبط من الكتاب، كنت اتمنى أن اقمع نزواتي أكثر من ذلك، نجيب محفوظ ليس وحده الأديب المنضبط، جابر عصفور بانتاجه الفكري الضخم، كان يكتب أيضا مع الضوء الأول لساعات النهار، لم يكن يهبط إلى عمله إلا بعد ان ينهي حصته من الكتابة، لأنه يرى في هذه الساعات لحظات لا تعوض من الصفاء، أنيس منصور كان كذلك، يستيقظ ليكتب مباشرة ثم يتناول فطوره فيما بعد، ولمن نجيب محفوظ كان ينتقده ويقول عنه أنه يكتب كثيرا لذلك لا يملك وقتا ليفكر، صديقي محمد المخزنجي من الناس المبكرين أيضا، وهو ينحت الكلمات كأنه ينحت في صخر، بينما غيره كمن يغرف من بحر، سعيد الكفراوي ايضا من رواد الكتابة النهارية، وكان يمتلك ميزة عنا، فهو منذ بدايته وهو يكتب مباشرة على الآلة الكاتبة، كالكتاب الأمريكيين، يوم كنا لا نملك سوى الورق والقلم، الامثلة لا تنهي وكلها في صالح القبرات، فالذكاء والعبقرية وسرعة الانتاج من نصيبهم، ولا يبقى للبومة غير مساحة صغيرة من عتمة الليل، ويقال أننا نحن البوم لا نملك من أمرنا شيئا، فهما حاولنا يبقى قدرنا معلقا بهذا الجزء المعتم من اليوم، الساعة البيولوجية داخل اجسامنا، هي نظام خاص يخضع لتقلبات الضوء ومستوى الهرمونات وحركة المد والجزر ومسار القمر في مدارجه، نظام يربط جسم الانسان بالحركة العامة للكون ودينامكيته المختلفة، نحن مجرد ذرة ضئيلة في هذا الكون، ولكننا أيضا جزء من مكون اعظم، والساعة البيولوجية هى مؤشر احساسنا بالزمن، وهي التي تحدد لكل واحد منا الأوقات التي يسكن فيها للنوم، والاوقات الأخرى التي تملأ اجسادنا بالنشاط وتدفعه لليقظة، وهي التي تحدد حالة الجوع من الشبع، وتجعل درجة حرارة اجسادنا تنخفض ليلا بمقدار درجة واحدة وتعيدها إلى حالتها في النهار، وهي ليست مجرد ساعة افتراضية ولكن لها وجودها المادي داخل الجسم، فهي مجموعة من الخلايا العصبية تقع في اسفل منتصف المخ ويطلق عليها النواة التصالبية العليا supra chiasm nucleus هي التي تتحكم في ايقاع الجسم على مدار اليوم، وتنظم حركة بقية الخلايا العصبية داخل الجسم، ولأنها تقع بالقرب من العصب البصري فهي تتأثر كثيرا بحركة الضوء، ويبدو أن المخ لم يعد وحده هو جهاز التحكم في هذه الساعة، فخلايا الكلى وبعض الخلايا الأخرى تفرز بعض البروتينات ليلا تدفع الجسم للاسترخاء، ويقل افرازها نهارا أو عند التعرض للضوء، وهناك جينات لليل وأخرى للنهار داخل كل خلية من الجسم، أي اننا لسنا بوما بإرادتنا ، ولكننا نخضع لنظام فسيولوجي يحكم اجسادنا في دورة زمنية لا تتغير. ولم يمنع هذا بعض الباحثين من دراسة الجانب الاخلاقي للساعة البيولوجية، فقد نشرت مجلة العلوم السيكولوجية الباحثة مريام كوشاكي وايزاك سميث وهما باحثان في جامعة جورج تاون نظريتهما حول التأثير الأخلاقي للصباح، فالناس يتصرفون بشكل جيد في بداية اليوم، ولكنهم يميلون للعشوائية وتغليب المصالح الشخصية في نهايته، وقد لفتت هذه النظرية أنظار “سونيتا ساه” استاذة العلوم السلوكية في جامعة جورج تاون، وعلى مدى خمس سنوات عكفت الباحثة على دراسة الأوضاع المختلفة التي تؤثر على قيم الفرد وسلوكه، وقد خالفت القول الشائع أن الصباح للفضلاء والليل للأشرار، الذي ينام مبكرا يستيقظ مبكرا، ويصبح اكثر تمسكا بالقيم والأخلاق، وقد قامت الباحثة بالبحث طوال اليوم ومختلف ساعات النهار حول الطلاب الذين يغشون في الامتحانات، وسماسمرة البورصة الذين يتلاعبون بالأسهم، والوسطاء العقاريون الذين يعتمدون على خداع الزبائن، وخرجت من هذا كله أن لاتوجد اي فروق اخلاقية بين القبرات والبوم، الاثنان يتعاملون بصدق احيانا ويغشون أحيانا بالدرجة نفسها، اخيرا أدركنا نحن اليوم أننا لسنا اشرارا لهذه الدرجة.