بقلم: حسّان عبد الله
الثقافةُ ضَرورِيَّةٌ لِتَجْعَلَ تَجْربةَ الأديبِ الخاصَّةِ رَمْزًا لِتَجْربةِ العصرِ الذي تنمو فيه جُذُورهُ ، إنّها باعِثُ الشّمولِ والعمقِ ، وهي التي تُمَكِّنُ الأديبَ من أنْ يُبدِعَ شيئًا من لا شيء . فالانفعالُ والإخلاصُ ضروريّان للأدبِ لكنّهما يبدوان قاصرين إذا لم تَتَسَنَّ لهما الثقافةُ لتُفَجِّرَ أبعادَهما وتجْعَلَهما رَمزًا للمشكلةِ التي يُعانيها ضميرُ الإنسانِ والعصر. فالنّاسُ جميعًا يُعانونَ الحُزْنَ مثلًا لكنَّ حُزنَهم يبقى غالبًا اختلاجةً مخنوقةً في نفوسِهِم ويلبثُ نتيجةً لمشكلتهم الخاصّة .أمّا أحزانُ الأديب الفرنسي بودلير كما نراها في أزهار الشر فقد انطلقت من واقعِه الخاص وجعلَتْ تتضاعفُ بذاتِها وتمتدُّ في نزوعِها إلى المطلق حتّى غدَتْ همومًا تُعَبّرُ عن وحشةِ الإنسانِ وانسحاقِهِ في سجنِ الوجودِ ذي القضبانِ الحديديّةِ كما يقولُ بودلير.لقد شيَّعَ بودلير جنازةَ الحياةِ . فأين ذلك كلُّهُ من أحزانِ المهلهل التي لمْ تَتَعَدَّ العويلَ والانفعال ، بل أين دموعُ الخنساءِ وهي دُموعٌ بدائيّةٌ أمام موتِ أخيها من دموعِ أبي العلاء المعرِّي أمام موتِ صديقِهِ. لقدأَعْوَلَتِ الخنساءُ في عُنْفِ انفعالِها البِدائي وبقيتْ مُقَيَّدَةً بموتِ أخيها وحُزنِها العميقِ عليهِ ، أمّا أبو العلاء شاعرُ الثقافةِ والرؤيا فقد انطلقَ من موتِ صديقهِ وواقعِ الموتِ والانفعالُ واحدٌ وهو انفعالُ الحزنِ ، أمّا الفرقُ بين الجزئيّةِ في قصائدِ الخنساءِ والدّيمومةِ والشّمول في قصائدِ أبي العلاء فيعودانِ إلى أَنَّ تَجربةَ الخنساء هي تجربةٌ آنِيَّةٌ عارضَة أمّا تجربةُ أبي العلاء فهي تجربةٌ مثَقَّفَةٌ نزَعَتْ إلى الكلِّ من الجزء .
لهذا فالأديبُ المبدعُ هو الذي يمنحُ الموضوعَ قِيمتَهُ وينيطُ به تجربةً إنسانيَّةً بفضِّ رُموزِهِ والعثورِ على العِلاقَةِ المُضْمَرَةِ التي تربِطُ بينه وبين النفسِ البشريَّةِ . فكان طبيعيًّا أن تسْتَمِدَّ معظمُ الآثارِ الفنيَّةِ الخالدة قيمَتَها من قُدرَةِ الأديبِ على الرؤيا أي من تفَوُقِهِ في العُثورِ على الحقائقِ الخَفِيَّةِ التي تجمعُ بينَ المظاهرِ المختَلِفَةِ وتُوَحِّدُها.