بقلم: إدوار ثابت
الجزء الرابع والأخير
ومنذ القدم ، فالأعمال اليونانية القديمة تتضمن صراعات تختلف بأختلاف موضوعاتها ، فالأدب التمثيلي اليوناني أو المسرح لا يخلو منها ، فمسرحيات سوفوكليس واسخيليوس ويوربيدس الذين عاصروا القرن الرابع قبل الميلاد تمتلئ كلها بهذه الصراعات ، وإن تشابهوا أو أختلفوا فهم من أشهر كتاب التراجيديا الأغريقية ، وقد يكون سوفوكليس أبرعهم وأكثرهم شعراً ، فقد كان مبتكراً ومسرحياته أكثر حركة وعمقاً ويبرز في شخصياته المحتوى النفسي لها .
وهي مع شخصيات اسخيلوس تتميز في صراعاتها بخصال سامية ، ولهذا فهي تنأى عن الحقيقة والواقع ، والصراع فيها بشكل عام بين رغبات الإنسان وأرتباطها بالآلهة القديمة – أما يوربيدس فشخصياته يبرزها كما هي وليس كما ينبغي أن نكون فهي تخطئ وتزل – أما أرستوفان فهو يشبه هؤلاء في ناحية ويختلف عنهم في ناحية ثانية ، يشبههم في مكانته من التاريخ الأدبي فهو مثلهم قد عاصر القرن الرابع قبل الميلاد وفي أن مسرحياته تتضمن صراعات تختلف بأختلاف موضوعاتها ، والصرع فيها بشكل عام بين الشخصيات وبين رغباتها وأهدافها التي تنشئ أحداثها ، وأرتباطها بالآلهة القديمة ، ولكنه يختلف عنهم في أن مسرحياته كوميدية تمتلئ بالمزاح والنقد الأجتماعي والسياسي ، يسخر فيها من الشخصيات العامة وسلوكها ، بل ومن الشخصيات البارزة مثل سخريته من سقراط في مسرحية (السحب) التي يسخر فيها من تعاليمه – وفي مسرحيته (برلمان النساء) فالصراع فيها بين الرجال والنساء في اثينا – فالنساء يعارضن أرتباط الحكم بالرجال ، فهم الذين يدفعون البلاد إلى الحروب فيستيقظن في وقت مبكر ويرتدين ملابس أزواجهن ويذهبن إلى البرلمان ويستطعن الحصول على قانون يكون الحكم فيه للنساء ، أما الرجال فهم يرفضون هذا المبدأ ولكنهم يحتارون ويتخبطون فيما يفعلون .
ولكن الصراع ولا سيما في الأساطير اليونانية القديمة لم يكن بين البشر أو بين الشخصيات الدرامية فحسب وإنما تشترك مع هذه الشخصيات الآلهة القديمة فمنها من ينحاز إليها ومنها من ينحاز عليها فيكونون معها أو ضدها ، يساعدونها فيحققون لها ما ترغب فيه ، أو يعرقلونها فيمنعون عنها ما تسعى إليه – وليس ذلك كل ما فيها ففي بعضها ينشأ الصراع بين البشر والإلهة أو بينهم وبين القدر وما تنبئ به هذه الآلهة ، بل وبين الآلهة أنفسهم ، يتنافسون فيها ويتشاحنون – كل منهم يرغب في أن يحقق ما يرتضيه وما يرتبط بمبادئه وعقائده ولكن مع هذا الأختلاف يشملها كلها هذا الصراع الذي يعطي لها الأساس الذي تبني عليه الدراما سواء التراجيديا أو الكوميديا . وآلهة اليونان القديمة كثيرة ، وعلى رأسهم (زيوس) الإله الأكبر وإله الرعد والبرق و(أبوللو) إله الشمس وموحي الشعراء والموسيقيين ، و(أرتميس) ألهة الصيد والعذرية ، و(أثينا) إلهة الحكمة و(هيرا) إلهة الجاه والسلطان و(أفروديت)إلهة الحب والجمال ، و(بوسيدون إله البحر) و(آريس) إلهة الخصام والنزاع ، وكثيرون غيرهم ففي مسرحية (أوديب) لسوفوكليس يثور في نفس أوديب وأبيه صراع داخلي بينهما وبين القدر وما تنبئ به الآلهة فيسعيان إلى أن يهربا منه ، ولكن القدر يوقعهما فيما يخشيانه – وفي مسرحية (برومثيوس مقيداً) لأسخيلوس ينشأ الصراع بين رغبة البشر وكفاحهم وبين قوة الآلهة أو بين الرأي الثاثر والأعتقاد العقلي ، وفيها يرغب زيوس رب الآلهة في إزالة الحياة البشرية من على الأرض ولكن برومثيوس وهو شخصية أسطورية يحب الإنسان فقدعلمه المعرفة والإدراك ويفسد رغبته فيعاقبه زيوس فيصمد لعقابه حتى يضطر إلى تغيير موقفه منه ، فتتحقق بذلك رغبته ، فإذا المغزي فيها يرمز لعناد الإنسان ضد الآلهة وقدرته على تغيير ما ترغب وما تفرضه . وقد يستغرب البعض كيف أرتضى الجمهور في ذلك الوقت الثورة على الآلهة ومعارضتها مع أعتقادهم في قدرتها وخضوعهم لها ، ولكن هذا ما فعله اسخيلوس – وفي مسرحية (هيبوليت) ليوربيدس ينشأ الصراع بين أريس ربة الصيد والعذرية وبين أفروديت إلهة الحب والجمال للأختلاف بين رغباتهما وتقاليدهما وفيها أقر هيوبوليت لأرتميس بالتزامه بها وتجنب النساء فتغضب أفروديت فتثير في فيدرا زوجة أبيه حباً له لكنه يصدها فتتهمه بإغوائها فينشأ الصراع بينه وبينها فتنبئ أباه فينشأ الصراع بينه وبين أبيه حتى تفصح ارتميس عن الحقيقة . وقد أستوحى (راسين) الشاعر الفرنسي من هذه المسرحية مسرحيته (فيدر) في القرن السابع عشر ونفذ منها فيلم سينمائي عام 1962 وهو (فيدرا) إنتاج وتمثيل ميلينا ميركوري ومعها أنتوني بيركنز وران فالوني ومن إخراج جول داسين – وقد قدمت هذه المسرحية على المسرح القومي المصري في السبيعنات .وأشهر الأعمال الإغريقية التي تتضمن هذه الأنماط المختلفة من الصراع ملحمتان كتبهما شعراً الأغريقي هوميروس في القرن التاسع قبل الميلاد وهما الألياذة والأوديسة . وبصرف الأنتباه إلى الأعتقاد الديني فمن يقرأ هاتين الملحمتين يشعر باستمتاع عندما يطلع على أحداثهما للصراع الذي يحويهما وهو ما يعطى لهما القيمة الأدبية وللتشويق الذي يشمل تلك الأحداث وهو ما يضفى عليهما الإثارة في قراءتهما بشغف وترقب. فالألياذة تحكي عن الحرب التي كانت بين الأثينيين والطرواديين – وهي تبدأبصراع مركب بين (آريس) إلهة النزاع وبين آلهة الأوليمب ، وبينها وبن (أثينا) إلهة الحكمة و(هيرا) إلهة الجاه والسلطان و(أفروديت) إلهة الحب والجمال فقد أقام (زيوس) الإله الأكبر حفلاً أحتفلت به آلهة كثيرة ومعهم هذه الآلهات ولم تُدع أريس فحنقت عليهن ورغبت في أن تثير النزاع بينهن ، فألقت أمامهن تفاحة ذهبية مكتوب عليها (للأجمل) فيتشاحن ويختلفن فيمن هي الأجمل منهن التي تستحق هذه التفاحة فيحتكمن إلى زيوس فيحتار بينهن فيقرر أن يحكم بينهن من يمر عليهن . ويقبل إليهن (باريس) أبن الملك (بريام) ملك طروادة، فأغرته أثينا حتى يحكم لها بأن تضفي عليه الحكمة ، وأغرته هيرا بأن تحقق له الجاه والسلطان ، وأغرته أفروديت بأن تهبه أجمل نساء العالم فاعطى التفاحة لها – ومنذ ذلك الوقت ظلت أثينا وهيرا تنحازان إلى الأثينيين في هذه الحرب ، وظلت أفروديت تنحاز إلى الطرواديين وتساعدهم عليها . وينزل (باريس) أبن الملك (بريام) ملك طرواة ضيفاً على بلاد الأثينيين فيرى (هيلين) الجميلة زوجة مينيلاوس ملك أسبرتا فيعشقها وتعشقه فيختطفها ويفر بها إلى طروادة . فيهب ملوك الأغريق ويحشدون سفنهم للأبحار إلى طروادة لمحاربتها وقهرها بقيادة (اجاممنون) ملك (أرجوس) وأخيه مينلاوس واو ديسيوس ملك (أيثاكا) وأبطال الأغريق ومنهم أخيلوس وأجاكس ونستور ، ولكن هبوب الرياح تتعثر فلا تستطيع السفن أن تتحرك وتقول الأسطورة الملازمة للألياذة أن (ارتميس) إلهة الصيد والعذرية تنبئ بأن يضحي أجا ممنون بأبنته (افيجيني) حتى تهب الرياح فإذاهو يضحى بها على مضض منه مما يغضب زوجته (كليتمنسترا) ولكن السفن تتحرك إلى طروادة وينشأ القتال بين الأثينيين والطرواديين ، فئة تغلب تارة وفئة تفوز تارة ثانية ، ويظل القتال خارج المدينة فلم يستطع الأثينيون اجتيازها لأن أسوارها كانت قوية وأبوابها محصنة ، وتقول الأسطورة أن أوديسيوس يبتدع حيلة يفصح عنها للجيش فيصنع الأثينيون حصانا خشبياً كبيراً هو الذي يعرف في التاريخ الأدبي بحصان طروادة يختبئ فيه بعض المقاتلين ومعهم اوديسيوس وينسحب جيش الأثينيين إلى مكان ناء لايراه فيه الطرواديون وفي اليوم التالي يرى الطرواديون الحصان فيعتقدونه رغبة في السلام فيرغبون في أن يأخذوا الحصان إلى المدينة – ولكن (كاسندرا) أبنة الملك بريام وكانت بها موهبة التنبؤ تحذر الطرواديين بأن ذلك الأمر سيجلب الدمار على المدينة فلم يصدقوها ويأخذون الحصان إلى المدينة فما أن يقبل الليل وقد أنتشى الطروادييون بشرابهم وفوزهم فغابوا عن وعيهم يتسلل من أختبأوا بالحصان ويفتحون أبواب المدينة إلى جيش الأثنيين فيهجمون على المدينة ويحرقونها ويدمرونها . ومن يقرأ الألياذة يلحظ تلك الصراعات التي كانت تحتويها ، ففيها ذلك الصراع الذي كان في بدايتها بين أيريس إلهة النزاع وبين الألهة، وبينها وبين أثينا وهيرا وأفروديت ،وفيها الصراع بين باريس وبين الآلهات الثلاث وأغرائهن بما يمتلكن وبين عشقه لهيلين وأختطافها وبين الأثينيين الذين هزهم هذا الأختطاف فحشدوا جيوشهم للأبحار إلى طروادة ومحاربتها لما فعله باريس . وفيها الصراع الذي كان بين اجاممنون وبين ما تنبئ به الآلهة بالتضحية بأبنته أفيجيني على مضض منه حتى تهب الرياح وتحرك السفن وبها الصراع الرئيسي بين جيش الأثينيين والطرواديين، وبين أفروديت التي أنحازت إلى الطرواديين في هذه الحرب وبين أثينا وهيرا اللتين انحازتا إلى الأثينيين، ثم الصراع بين أبطال الطرفين بين هكتور البطل الطروادي وبتروكلوس البطل الأثيني، وما كان بين أخيلوس وأنتقامه من هكتور الذي قتل صديقه تبروكلوس ، وحيلة الحصان الخشبي التي أبتدعها أوديسيوس وانخداع الطرواديين بها ، بل الصراع الذي نشأ بين الأثينيين أنفسهم وبين الطراواديين أنفسهم ، بين أجاممنون قائد الحرب وبين أخيلوس الذي كرهها فأصر على أن يفر منها لولا رغبته في الأنتقام من هكتور ، وبين رغبة الطرواديين في أخذ الحصان إلى مدينتهم وبين معارضة كاسندرا لتنبؤها أن الحصان سيجلب الدمار على المدينة ، ووالصراعات مع كل ذلك تبرز مبدأ الشرف وقيمة الشجاعة .
وهكذا يوضح هوميروس في هذه الملحمة أن الآلهة هي التي تحرك البشر وتدفعهم إلى ما يفعلون فتقرر أقدارهم ، وهي التي تؤثر على الحرب فاستمرت يتنازع الطرفان فيها ويشتد فيها الصراع الذي كان يفوز فيه الأثينيون تارة والطرواديون تارة ثانية . أما الأوديسة فهي تحكي عن اتجاه أوديسيوس إلى بلاده بعد أنتهاءحرب طروادة وتعرضه لكثير من الأهوال والشدائد ، فقد بلغت سفينته جزيرة من الجزر يقدم سكانها فيها لرجاله من البحارة زهرة اللوتس التي أثرت عليهم فإذا هم ينسون بلدهم ويعتقدون أن ذلك المكان هو وطنهم حتى يستطيع اوديسيوس أن يمنعهم عنها ويتقذهم منها وقد تعرض هو إلى ساحرة من الساحرات تؤثر عليه فيعشقها حتى ينجو منها – وإلى هجوم وحش من الوحوش البحرية هو ومن معه ، ومروره في سفينته بجزيرة تسكنها عرائس البحر اللاتي ينشدن الأغاني التي تؤثر على من يمر بها ويسمعها فيلتاع أشتياقاً وينجذب إليها وإليهن ، فإذا هو يضع الشمع على آذان البحارة حتى لا يسمعوا أنشادهن الذي يتغنين به ، ويأمر بحارته بأن يربطوه بالسفينة حتى أجتازت الجزيرة بين عذابه وعذابهم. وينقم بوسيدون إله البحر على أوديسيوس فيعرقل أبحاره بسفينته لأن أوديسيوس فقأ عين أبنه السيكلوب العملاق ذي العين المنفردة بعد أن حبسه هو ورجاله حتى أستطاعوا أن يفروا منه ويظل أوديسيوس سجيناً وأسيراً للحورية (كاليبيسو) التي تؤثر عليه فلا يستطيع التنصل منها . أما زوجته (بينيلوب) فهي تتأسى لغيابه ومع تأسيها يحيط بها من يتوددون إليها من الخطاب الذين يرغبون في الزواج منها ولكنها تمتنع وترفضهم فما أن يزداد ضغطهم عليها حتى تخبرهم بأن عليها أن تحيك نسيجاً ما أن تنتهي منه حتى تنتقي من بينهم زوجاً فإذا هي تزيل في المساء ما تنجزه من النسيج في النهار ، ولكن أثينا ترأف به وبزوجته فتتضرع إلى بوسيدون في أن يتيح له بلوغ بلده فيبلغها . فتخفي أثينا هيئاته ولكن كلبه الوفي يعرفه ثم تعرفه خادمته وتعرفه زوجته فتفرح لحضوره حتى كادت أن يغشى عليها . وتنبئه بخطابها فيوعز إليها في أن تحضرهم إلى قاعة بالقصر فتحضرهم وتخبرهم بأن من يستطيع أن يشد قوس أوديسيوس ويصيب به هدفاً بسهمه بين حلقات مستديرة صغيرة سيكون زوجاً لها فلم يقدروا ويسعى هو إلى ذلك بين ضحكات الخطاب ويصيب الهدف فيغلق أبنه تليماك باب المكان وينتقم اوديسيوس هو وأبنه من هؤلاء الخطاب .
ومن يقرأ الأوديسة يلحظ تلك الصراعات التي تمتلئ بها ، ففيها الصراع بين أوديسيوس وبين سكان الجزيرة الذين أعطوا لرجاله زهور اللوتس ليغيبوا عن وعيهم ، وما هو بينه وبين تلك الساحرة التي أثرت عليه فعشقها ، وما بينه هو ورجاله وبين الوحش البحري ، وذلك الصراع بينه وبين عرائس البحر اللاتي يؤثرن بغنائهن على من يقترب من جزيرتهن ، وصراعه هو ورجاله بينهم وبين السيكلوب ذي العين التي تتوسط وجهه ثم صراعه القوي في إبحاره بسفينته وبينه وبين عرقلة بوسيدون لما فعله بالسيكلوب ثم صراعه بينه وبين الحورية كاليبسو التي أثرت عليه حتى قوي على أن يتنصل منها أما زوجته بينيلوب فيثور الصراع بينها وبين خطابها الذين يرغبون في الزواج منها رغماً عنها ، وبينهم وبين أبنها تليماك ليمنهم مما يرغبون فيه وفي سعيه للبحث عن أبيه حتى يتأجج الصراع عندما يحضر أويسيوس إلى بلده فيسعى إلى الأنتقام هو وأبنه من هؤلاء الخطاب . وقد ظلت هاتان الملحمتان الألياذة والأوديسة أثراً قيماً على مر العصور ، نفذت منهما الأفلام السينمائية العالمية وافرة الإنتاج والمسرحيات العالمية ، وقد ترجمتا إلى أكثر من لغة وأخذ عنهما الشعراء والأدباء في كثير من بلاد العالم أعمالهم الأدبية ومؤلفاتهم المشهورة .