بقلم / مسعود معلوف
سفير متقاعد
في أثناء الحرب الباردة بين الإتحاد السوفياتي والولايات المتحدة الأميركية بعد الحرب العالمية الثانية، كانت أوروبا حليفا قويا للولايات المتحدة، باستثناء طبعا دول أوروبا الشرقية التي كانت جزءا من الإتحاد السوفياتي وأصبحت فيما بعد أعضاء في حلف شمال الأطلسي والإتحاد الأوروبي.
هذا التحالف الأميركي-الأوروبي، بالرغم من جديته، شهد بعض الصعوبات والمشكلات في فترات مختلفة، أهمها كان عند انسحاب فرنسا من الجهاز العسكري المتكامل لحلف شمال الأطلسي عام 1966 حيث طلب الرئيس الفرنسي آنذاك شارل ديغول إقفال القواعد والمواقع العسكرية التابعة للحلف في فرنسا والتي لم تكن خاضعة للقيادة العسكرية الفرنسية، وكذلك لم يعد هنالك قوات فرنسية تحت إمرة قيادة غير فرنسية، وقد أعاد الرئيس ساركوزي لفرنسا عضويتها الكاملة في الحلف عام 2009.
المشكلة الآخرى في العلاقات الأوروبية-الأميركية حصلت عام 2003، عندما قرر الرئيس الأميركي جورج بوش الإبن اجتياح العراق بالشراكة مع دول حلف شمال الأطلسي، فرفض الرئيس الفرنسي آنذاك جاك شيراك التعاون مع الولايات المتحدة في الهجوم على العراق ما أدى الى بعض التوتر في العلاقات بين البلدين.
ولكن التراجع الكبير في العلاقات بين أوروبا والولايات المتحدة حصل أيام رئاسة دونالد ترامب الذي كان ينظر الى أوروبا بطريقة فوقية، وقد تأثرت كثيرا العلاقات الأميركية مع كل من ألمانيا وفرنسا بصورة خاصة لدرجة أن الرئيس ترامب رفض مرة أن يصافح المستشارة الألمانية، كما أنه دعم أنظمة الحكم اليمينية المتطرفة في كل من هنغاريا وبولاندا، ما أدى إلى خلافات قوية في الداخل الأوروبي.
في هذا الإطار من العلاقات المتأرجحة والتي أدت في حينه الى تدني الثقة الأوروبية بالولايات المتحدة، بدأت أوروبا، بمبادرة فرنسية من الرئيس ماكرون، التفكير بما عرف ب “استقلالية استراتيجية” لأوروبا لتتمكن من الحفاظ على مصالحها والخروج من تحت المظلة الأميركية.
ومع أن الرئيس بايدن الذي فاز على ترامب في انتخابات عام 2020 تمكن من إعادة بعض الحرارة في العلاقات عبر المحيط الأطلسي، وذلك بعد إعادة الإنتساب الأميركي الى المنظمات الدولية التي كان ترامب انسحب منها مثل اتفاقية باريس للمناخ ومنظمة الصحة العالمية، وحاول تطمين الدول الأوروبية لجهة استمرار التعاون مع أوروبا، إلا أن ما جعل الدول الأوروبية تقترب كثيرا من الولايات المتحدة هو الإجتياح الروسي لأوكرانيا.
لقد أيقظت الحرب الروسية على أوكرانيا مخاوف واضحة لدى الأوروبيين من أن هنالك رغبة روسية في التوسع جغرافيا وفي تعزيز نفوذها السياسي في المنطقة، وقد تكون الولايات المتحدة بالغت بعض الشيء في إظهار أطماع الرئيس الروسي بوتين في استعادة أمجاد الإتحاد السوفياتي المنحل، وهذا ما جعل الدول الغربية والدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي تتعاون مع بعضها البعض لمواجهة الهجوم الروسي على دولة كانت تسعى الى الإنضمام الى الإتحاد الأوروبي والى الحلف، بعد أن كان هذا الحلف في حالة موت سريري على حد وصف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون له.
في هذا الإطار، لعبت الولايات المتحدة دورا قياديا في دعم أوكرانيا عسكريا واقتصاديا وماليا وإنسانيا وسياسيا، وتمكنت من إقناع الدول الأوروبية عامة لمجاراتها في هذا التوجه، ولفرض عقوبات مالية وسياسية قاسية على روسيا. ولكن نتيجة لهذه العقوبات، تعرضت أوروبا لصعوبات اقتصادية ولنقص واضح في حاجاتها للطاقة التي كانت تستوردها بنسبة ملموسة من روسيا. وكذلك بدأت الدول الأوروبية تعاني من نقص في مخزوناتها من الأسلحة بعد إرسال كميات كبرى منها الى أوكرانيا لدعم صمودها ضد الجيش الروسي دون أن تتمكن مصانعها من تأمين مخزون كاف من الأسلحة، وقد حاولت الولايات المتحدة التعويض بعض الشيء عن هذا النقص الكبير في الطاقة والسلاح، وهذا ما جعل أوروبا في حالة من التبعية لأميركا.
والآن، وبعد مضي أكثر من سنة على هذه الحرب دون أن يظهر ما يشير الى قرب انتهائها، بدأت بعض الدول الأوروبية، وفي طليعتها فرنسا، تشعر بان سيرها وراء الولايات المتحدة بهذا الشكل من شأنه أن يضر بمصالحها الإقتصادية والسياسية، وأن يؤثر على امكانية اتخاذ قراراتها الوطنية بصورة مستقلة، فعاد الرئيس الفرنسي ماكرون يتحدث عن “الإستقلالية الإستراتيجية” لأوروبا، والإبتعاد عن الهيمنة الأميركية على القرار ألأوروبي.
الجدير بالملاحظة هنا هو أن هذه المواقف “التحررية” من الولايات المتحدة التي أعلنها ماكرون جاءت في حديث الى صحيفة “بوليتيكو” الأميركية خلال رحلة عودته من الصين بعد زيارة الى هذا البلد دامت ثلاثة أيام، تميزت بترحيب وحفاوة كبرى من قبل الرئيس الصيني شي جينبينغ، ومحادثات ثنائية بين الرئيسين لساعات طويلة، وتناولت في معظمها الحرب الأوكرانية وموضوع تايوان.
وإذا كانت فرنسا تسعى الى حث أوروبا عامة على اتخاذ قرارات لتحقيق استقلاليتها عن الولايات المتحدة، فهذا لا يعني أن هنالك رغبة في معاداة أميركا أو السير ضدها وعدم التعاون معها، بل ما يقصده ماكرون من “الإستقلالية الإستراتيجية” لأوروبا هو تحقيق المصالح الأوروبية بمعزل عن المصالح والرغبات الأميركية التي لا تتطابق دائما مع مصالح الدول الأوروبية، وقد أوضح ماكرون ذلك بالقول أن الخلاف بين أميركا والصين فيما يتعلق بجزيرة تايوان مثلا ليس من ضمن الأولويات الأوروبية، وينبغي على أوروبا أن لا تنجر وراء ما قد ينتج عن هذا الخلاف الأميركي-الصيني من أزمات محتملة. هذا مع العلم أن بعض الدول الأوروبية لها مصالح تجارية واقتصادية واستثمارية هامة مع الصين، ويهمها حمايتها وعدم تعريضها لأية مخاطر.
إن العلاقات الأميركية-الأوروبية في الوقت الحاضر هي علاقات ممتازة، ولكن الحرب الروسية على أوكرانيا، والدعم الأميركي غير المحدود لهذه الأخيرة وعدم وجود أفق لنهاية هذه الحرب، كلها أمور سيكون لها تأثير واضح على الإقتصاد في معظم الدول الأوروبية، ومن هذا المنطلق، فإن الرئيس الفرنسي يسعى الى تحييد أوروبا عن مثل هذه الصراعات.
من جهة أخرى، وبعد تطورات الحرب الأوكرانية وزيارة الرئيس الصيني الى موسكو وظهور بوادر عالم جديد متعدد الأقطاب وربما على عتبة حرب باردة جديدة قوامها روسيا والصين وحلفاؤهما من جهة، والولايات المتحدة وحلفاؤها من جهة ثانية، قد يكون الرئيس ماكرون يسعى أيضا الى إيجاد دور مستقل لأوروبا تستطيع من خلاله أن تكون القطب الثالث في العالم بدل أن تكون تابعة للمصالح والرغبات الأميركية.
هذه المواقف الفرنسية لا تلقى تأييدا أوروبيا عاما في الوقت الحاضر، خاصة من دول مثل ألمانيا التي لها مصالح قوية مع الولايات المتحدة، وربما ما زالت غير مستعدة للخروج من تحت المظلة الأميركية التي تؤمن لها حماية كبرى في حال حصول خلافات إضافية بينها وبين روسيا.
ومما لا شك فيه أن أية استقلالية تسعى أوروبا الى تحقيقها ستتطلب الكثير من الوقت قبل أن تبصر النور لأن الدول الأوروبية عامة، بما فيها فرنسا، ما زالت بحاجة الى الولايات المتحدة سواء للتعويض عن النقص في الطاقة بسبب العقوبات على روسيا، او بسبب التسلح للدفاع عن نفسها في حال حصول تطورات تجعل روسيا تشكل خطرا عليها، كما أن الولايات المتحدة تعي جيدا أن الإستقلالية الأوروبية التي يسعى الرئيس ماكرون الى تحقيقها لن تضع أوروبا في وضع عدائي تجاهها، بل قد يكون في ذلك إفادة غير مباشرة للولايات المتحدة إذ ستستطيع في هذه الحالة تخفيف دعمها بالمال والسلاح لأوروبا.
كل هذه الأمور تقودنا في الختام الى التساؤل ما إذا كانت الحرب الروسية على أوكرانيا، التي أوصلت دول حلف شمال الأطلسي ودول الإتحاد الأوروبي الى هذه الدرجة المتقدمة جدا من التعاون والتحالف مع الولايات المتحدة، ستكون هي أيضا السبب في ابتعاد محتمل للدول الأوروبية عن الولايات المتحدة وفي الوصول الى عالم متعدد الأقطاب تكون أوروبا أحد أقطابه بعد تحقيق استقلاليتها الإستراتيجية بقيادة فرنسا.