بقلم : نعمة الله رياض
إسمها (نجوي) ، والجميع ينادوها (ناني) ، وهي وحيدة والديها وقرة عينهما ، والدها رجل أعمال معروف ، واسع الثراء، طائل النفوذ، وزوجته سيدة أعمال مشهورة ترأس عدة جمعيات خيرية تغدق عليها أحيانا من مالها الخاص .. أقامت لإبنتها إحتفالاً مبهراً بمناسبة عيد ميلادها الواحد وعشرين والذي يصادف في نفس ألأسبوع حصولها علي شهادة التخرج من الجامعة الأمريكية ، كلية العلوم الإنسانية والإجتماعية.. أهداها والدها في الحفل بهذه المناسبة مفاتيح سيارة فاخرة ماركة عالمية لإستعمالها الخاص، وقلدتها والدتها عقداً يتدلي منه ماسة زرقاء كبيرة ونادرة.. في اليوم التالي ، ذهبت لمقابلة أستاذها في الجامعه وطلبت منه الإشراف علي رسالة ماجستير تنوي التسجيل فيها، سألها عن موضوع الرسالة ، أجابت :إنها ستركز علي العلاقات الاجتماعية بين المجموعات البشرية المختلفة في ظل وباء ما يجتاح البلاد ، وكيف تتعامل هذه المجموعات مع هذا الوباء ..قال لها الأستاذ: هذا موضوع شائك وصعب ويحتاج إلي جانب الدراسة الأكاديمية ، بحث ميداني علي أرض الواقع لتسجيل ردود أفعال هذة المجموعات البشرية في مواجهة خطر داهم ، أجابته: هذا ما أنوي أن أفعله يا دكتور .. في جلسة للأسرة بعد العشاء أعربت نجوي عن عزمها تقديم أطروحة في موضوع يحتاج إلي إجراء بحث ميداني في مدينة خارج القاهرة تنتشر فيها بكثافة الإصابات بفيروس كوفيد -19 ، نظر الوالد إليها وقال : الا يكفيك يا ناني ما حصلت عليه من تعليم إجتزته بتفوق ، أما آن الأوان وأنتي في ريعان الشباب أن تتزوجي لنفرح بأولادك ؟ ها هو المنصوري بك ، صاحب المصانع المعروف يطلب مني يدك لأجل إبنه كميل .. اجابت نجوي ساخرة : كيمو !! أنا لا أطيقه يا أبي ، إنه لا يكف عن مطاردتي في النادي بكلام أجوف وينفر منه جميع أصدقائي ،هل تعلم إنه مدمن للجنس والمخدرات ، أنا أفضل الموت بالكورونا على الزواج منه!!! إستمر النقاش مدة طويلة إلي أن رضخ الوالد في النهاية لرغبة إبنته ، وإقترح عليها أن تسافر لعزبة شقيقه الكائنة بالقرب من مدينة طنطا بوسط الدلتا حيث يمكنها جمع مادة البحث .. كما شدد عليها أخذ التطعيمات اللازمة لفيروس كوفيد -19 قبل السفر وأخذ جميع الإحتياطات أثناء السفر وطوال مدة البحث ، كإرتداء الكمامة والمحافظة علي التباعد الإجتماعي ..إلخ ، بعد إستكمال إستعدادها للسفر إنطلقت نجوي بسيارتها الجديدة في طريقها لطنطا .. علي باب العزبة ، رحب بها كريم إبن عمها.. قالت له: هل تتذكرني يا كريم ؟ لم أراك منذ كنا أطفالاً نلعب مع أطفال العزبة قال لها: لم أنساكي أبداً يا نجوي فأنت إبنة عمي المفضلة ، لكن مشاغلي .. – ما هي مشاغلك ؟! – بعد تخرجي من كلية الآداب بطنطا حصلت علي وظيفة مدرس ثانوي ، بالاضافة إلي مساعدة والدي في إدارة شئون المزرعة – وفي أي قسم درست في الكلية ؟ – في قسم الأنثروبولوجي – رائع !! إنه قريب جداً من علم الإجتماع الذي درست فيه ، قال كريم : لقد إتصل بي عمي وطلب مني مساعدتك في البحث الميداني لنوال الماجستير ، من الآن انا طوع يديك! – العفو يا كريم ، بماذا تقترح أن نبدأ ؟ – لحسن الحظ هناك مولد السيد البدوي حيث تقام إحتفالات لإحياء الطرق الصوفية ، ستعاينين بنفسك تصرف الحشود في ظل وباء الكورونا .. في اليوم التالي ذهلت نجوي عندما شاهدت معظم المحتفلين في ميدان السيد البدوي متزاحمين ولا يرتدون كمامات !! طلبت من كريم مغادرة الميدان فورا فقال لها: ليس قبل أن أشتري لك حلاوة المولد والحمص والمشبك ، ضحكت وأمسكت بيده ، أحس بضغطة يدها الدافئة علي كفه .. في اليوم التالي إصطحبها لحضور حفل زواج صديق له في الكنيسة ، لاحظت أيضاً عدم الإلتزام بلبس الكمامة .. ثم حضرت معه حفلة زار ، فحدث ولا حرج ، عدم الإلتزام بأي شيء !!.. طلبت من كريم زيارة عدد من العائلات من مختلف مستويات المعيشة ، فرتب لها هذه الزيارات ، وكسابق مشاهدتها لم تجد إلا اللامبالاه ، وكأن وباء الكورونا في كوكب آخر ، طالما لم يمسسهم أذي بعد !!
في زيارة غير مقررة ، ذهبت نجوي مع كريم للمستشفي العام بطنطا حيث يحتجز عدد كبير من مرضي الكورونا ، قال لهم مدير المستشفي : لماذا جئتما هنا الا تخافا علي حياتكما ؟ رد عليه كريم : لقد اخذنا التطعيمات المقررة ، وها هنا نحن أمامك نضع الكمامات علي وجوهنا..قال الطبيب : إحذرا فكل هذا قد لا ينفع أمام ظهور فيروس متحور بالغ الخطورة والضراوة وينتشر بسرعة عبر الهواء ، وعلي مستوي الجمهورية رصدت حتي الآن أربع حالات إصابه كلهم هنا فقط في طنطا ، وتضاعفت إلي 1500 حالة خلال ثلاثة أيام فقط وسرعة العدوى بالسلالة الجديدة يفوق معدل سرعة العدوى بفيروس كورونا الأصلي بثلاث مرات ونسبة الوفيات تزيد عن 70% من عدد الإصابات ، كما ان هذه السلالة لها القدرة على إعادة إصابة المتعافين من الفيروس بنسبة كبيرة .. سألته نجوي: وما معني الفيروس المتحور؟ قال الطبيب: الفيروسات التي تصيب الإنسان تواجه دفاعاً قوياً لا يقتصر على أجهزتنا المناعية الطبيعية فحسب، بل يمتد إلى سبل الدفاع التي نطوّرها مثل اللقاحات والأدوية والتدابير الاجتماعية، ولكي يتمكّن الفيروس من البقاء، لا بدّ من تكيّفه مع البشر ، وأن تكون لديه القدرة على تطوير آليات تكيّف أخرى ؛ حتى يتغلّب على جهودنا في مقاومته وعلاجه. ويمكن لنسخةً متحورة من فيروس «سارس-كوف-2» فيها تغيرٌ في البروتين الشوكي أن تتغلب على النسخ السابقة لها وتصبح هي السلالة السائدة وتحتوي على طفرات من شأنها أن تجعل الفيروس أكثر انتشارًا وضراوةً وأكثر قدرةً على تفادي آليات الدفاع المناعية لدى البشر.
تفاقم الوضع الصحي في مدينة طنطا وزادت المخاوف من إمتداد الإصابات بالفيروس المتحور المميت خارج المدينة ، مما جعل رئيس الوزراء يعقد جلسة عاجلة للمناقشة، وفي النهاية أصدر القرارات الإستثنائية التالية:
قرار عاجل بحصار المدينة وقطع الطرق الواصله منها للمدن والقري المحيطة بها وتعليق النقل بالسكك الحديدية المارة بالمدينه .. تكليف سلاح المهندسين بسرعة مد أسوار سلك شائك مكثفة وأبراج حراسة حول المدينة مزودة بكشافات إضاءة مع تعليمات صريحة لجنود الحراسة باطلاق النار وقتل كل من يحاول الهروب من الحصار.. السماح لسيارات نقل المؤن والمياة وانابيب الأكسجين بالدخول وسيارات نقل الموتي بالخروج ، علي ان يرتدي جميع العاملين عليها بدل واقية تغطي الجسم بالكامل مع حمل انبوبة اكسجين خلف الظهر للتنفس ..إنشاء حجر صحي بصفة عاجلة ، خارج مدينة طنطا لفحص وعلاج من يتقرر خروجهم من الحصار ويفضل البدء بالاطفال وصغار السن من الجنسين .. تركيب مكبرات صوت في كل شوارع المدينة لإذاعة التعليمات والبلاغات والاغاني الوطنية التي تحث المواطنين علي حب الوطن والتضحية بارواحهم من أجل حمايته..
إصطفت طوابير المواطنين للخروج من الحصار لكن القدرة الإستيعابية للحجر الصحي كانت محدودة للغاية بالمقارنة بعدد سكان طنطا الذي يقارب السبعمائة الف نسمة ، وطلبت وزارة الصحه تجهيز عدد إضافي من المقرات للحجر الصحي علي مداخل المدينة ..
عمت الفوضي في أنحاء المدينة ، وانتشرت أعمال السلب والنهب ونشأت عصابات من الجائعين يستولون علي المؤن ، وخاف السكان علي أولادهم فإعتكفوا في منازلهم .. كان هذا يشبه أحداثاً أصابت مصر في الماضي البعيد ، فقد ذكر مؤرخون أن مجاعة حدثت بمصر نتيجة غياب مياه النيل بمصر لسبع سنين متصلة ، فلقد تصحرت الأرض وهلك الحرث والنسل وكان ذلك في عصر الخليفة الفاطمي المستنصر بالله 1036-1094م ، وهي من أشد المجاعات التي حدثت بمصر منذ أيام يوسف عليه السلام، فقد أكل الناس القطط والكلاب والدواب، وأكلوا بعضهم بعضاً، وقد كان الأحباش يتربصون بالنساء في الطرقات ويخطفوهن ويقتلوهن ويأكلوا لحومهن..!!! وتراجع سكان مصر لأقل معدل في تاريخها…
أدرك كريم ونجوي أنهما يواجهان الموت لا محالة بانتظارهما كما تنتشر جحافل في طوابير لا تنتهي وفي جو ملبد بالفيروسات القاتلة، فإلتفت إلي نجوي ولمعت عيناه وقال لها: هناك طريقة للخروج من هذا الحصار ، ولكنها مجازفة وقد نفقد حياتنا أثناء تنفيذها ، قالت له: علي أي حال سنموت إذا بقينا هنا ، أخبرني بها ارجوك !.. قال : هناك بجوار مبني قناة تلفزيون الدلتا المحلية ، مشروع صرف صحي تحت الإنشاء ، وتوجد محطة طرد داخل طنطا قبل الأسلاك الشائكه ويمتد منها ماسورة صرف صحي غير مكتمله وتنتهي بعد الأسلاك الشائكة بمسافة ثلاثين متر تقريبا داخل الحقول ، فإذا حالفنا الحظ عندما نخرج منها ، لا يلحظنا برج الحراسة بكشافاته الدوارة .. إحتضنته نجوي وقبلت وجنتاه وقالت : لن أنسي ما حييت ما تفعله من اجلي ، فإذا كتب لنا النجاه ستكون أعز صديق لي ، هيا بنا نسرع لمحطة الطرد ..كان مبني محطة الطرد مغلقاً ببوابة حديدية ، بحثا عن الحارس ووجداه في كشك للحراسة ، سألوه المساعدة في الهروب ، طلب منهما مبلغاً كبيراً من المال، فخلعت نجوي عقدها الماسي وقالت للحارس: هذا عقد ثمين جداً فلا تتسرع في بيعه.. فتح لهما البوابه وأعطي لكل منهما أفرول وكشاف إضاءة ، إنتظرا حتي حلول الظلام ، زحفت نجوي في الماسورة وخلفها كريم ، وعندما وصلت لنهايتها أخرجت رأسها بحذر فوجدت ضوء كشاف كشك الحراسة يبتعد، فخرجت مسرعة لتختبئ خلف شجرة قريبة ، نفس ما فعله كريم ، لكن لحظه العاثر لمحه جندي الحراسة فاعاد تسليط الكشاف عليه وأطلق زميله النار عليه فأرداه قتيلاً.. كانت صدمة كبيرة لنجوي وبكت بمرارة ، لكنها أدركت خطورة البقاء في المكان ، فخلعت الأفرول وأسرعت للطريق العام حيث أوقفت سيارة وطلبت توصيلها للقاهرة ..
كان إنتشار الفيروس المتحور أسرع بكثير من محاولات مقاومته فوصلت المدينة لنقطة الإستسلام ، ودخلت في دوامة شديدة السواد وأصبحت خالية من أي مظهر من مظاهر الحياه .. غارقة في ظلام دامس وصمت كصمت القبور….
في مؤتمر صحفي عقد في وقت متأخر من الليل وحضره رئيس الوزراء، صرح بأنه قد تمت السيطرة علي الوضع في البؤرة الوبائية بمدينة طنطا والقضاء علي فيروس كوفيد -المتحور ، بأقل خسائر ممكنة في الأرواح!! وستقوم الوزارات المعنية بتقييم الخسائر البشرية والماديه وتطهير المدينة ، تمهيدا لإعادة الإعمار وعودة الأهالي إلي منازلهم..
بعد عدة شهور من عودة نجوي لمنزلها،أنجزت رسالة الماجستير .. ويا لها من رسالة !!!