بقلم: تيماء الجيوش
لربما نالت القضية النسوية و علاقتها مع الايديولوجيات المختلفة حيزاً معقولاً من البحث لتحليل بنيتها وأهدافها في ظل ظروفٍ معقدة و مُركّبة لم تعد حصراً على بلدٍ معين. ولعل العلاقة بين الليبرالية و الحركة النسوية هي من الاهمية بمكان لا سيما إذا أُدرِكَ أن الفلسفة الليبرالية هي الحاضنة الأم للحركة النسوية.
مع عصر التنوير و كل ما يعنيه من عقلانية و نهضة في القرن الثامن عشر و نشوء حركة ٍ ثقافية و فلسفةٍ حديثة تدعو الى التطوير و التحديث و رفض البنية والتقاليد الثقافية – المجتمعية البالية ،ظهرت الفلسفة الليبرالية و تبنيها الجذري للمساواة و احترام العدل و الحريات . فالليبرالية الكلاسيكية هي بنيوياً ايديولوجيا سياسية واقتصادية تدعو لحماية الحريات المدنية و عدم التدخل الاقتصادي عبر الحد من سلطات الحكومات .فليس إذاً مُستبعداً أو غريباً أن تستقي النسوية كحركة ناشئة في نهاية القرن التاسع عشر جذورها من الفلسفة الليبرالية و هي الحركة التي انتقدت نظرة المجتمع المبتورة و بشدة للمرأة و أكدت أنه لا بُدّ من استثمار طاقات المرأة و منحها الحرية والمساواة مع الرجل في الحقوق عامة من خلال مبادئ العدالة و فهمٍ أدق للبنى الاجتماعية و اعتبرت أنه ما دام التمييز مُكرّساً في النصوص القانونية والأعراف فإن الإصلاح السياسي و القانوني هو الأداة الرئيسة لتحقيق هذه المساواة .و بهذا لم تلبث طويلاً حتى استقطبت مبادئ النسوية الليبرالية العديد من الاحزاب و الهيئات السياسية في النظم الديمقراطية عموماً في بداية القرن العشرين و أبرز بدايةً لها كان في المطالبة بتعديل القوانين الدستورية و الحقوق السياسية و المدنية و منهاحق الانتخاب و الترشح و احترام الحريات الشخصية و حق العمل و الحق في الطلاق و حق الحضانة ، الاستقلال القانوني و حق الملكية و حق التعليم. و قد أسهمت تالياً بتشكيلها لرأيٍ عام اعترف بأن النساء كأفراد هم أيضاً فئة أجتماعية أساسية. على مر العقود تبلور عمل الحركة النسوية و كان لها من التأثير على حركة الحقوق المدنية في الستينات من القرن العشرين حيث عدّت أن التمييز العرقي و التمييز ضد المرأة لا يتباينان بل هما وجهان لعملة واحدة. لم تقف هذه الحركة امام الصعوبات و توجيه اصابع الاتهام لها بأنها تسعى حثيثاً نحو إلغاء الأسرة و دورها و أنها تُحوّل المجتمعات الانسانية الى مساحاتٍ من صراعٍ فارغ بين الرجل و المرأة، بل أنه يؤدي و بشكلٍ مباشر لتقويض المجتمع والدولة الحديثة أياً كان تعريف هذه الدولة او درجة حداثتها وبالطبع في ثنايا هذا القول نيةً لا تُستبعد في الحفاظ على شرائط اجتماعية، قانونية، سياسية تُلقي بمزيدٍ من التمييز على كواهل النساء.
على أية حال تاريخياً و على اختلاف المراحل التي مرت بها النسوية برهنت النظم الليبرالية و القوانين الديمقراطية بأنها الضامن الفعلي لحقوق المرأة وتطبيقاتها العملية. الحركة النسوية الليبرالية كانت حيوية وتتفاعل مع محيطها بمحاوره المختلفة و لعل هذا كان سبباً مباشراً لأن يخرج من رحمها الليبرالية الراديكالية التي جاءت بمفاهيم جديدة تقول بأن التمييز ضد المرأة يستند الى أدوارها الإنجابية و أن مصدره الأساسي هو الجندر/ أو الهوية الجنسانية و التي أدت بدورها الى التبعية المطلقة من قبل المرأة للمؤسسة الأبوية ما أحدث خللاً في البُنى الاجتماعية، مُشيرةً الى أن المنظمات و التجمعات المقابلة هي ذكورية و أدّت الى المزيد من إستلاب حقوق المرأة فلا نفع من المطالبة بهذه الحقوق ما دامت المؤسسات ذاتها و برمتها ذكورية و على هذا نادت الليبرالية الراديكالية ليس فقط بالتغيير السياسي و القانوني بل و أيضاً بالتغيير ثقافياً و إجتماعياً.
وبالرغم من تنوع الحركة النسوية تالياً ليبرالية، راديكالية، اجتماعية و توالي موجاتها الاولى و الثانية و الثالثة، إلا أنها مجتمعة كحركة أدانت اختزال أدوار المرأة و حصره في دورها الإنجابي و المحافظة على استمرار النوع و هذا تحديداً ما رفضنه النسويات على اختلاف أطيافهن و رأين فيه أن الفوارق الطبيعية ليست سبباً في هشاشة دور المرأة و دفعها بعيداً نحو الظل بل الأمر يعود الى عوامل سياسية و اقتصادية و اجتماعية و ثقافية بالدرجة الاولى و لا شأن لها بالنوع الجنساني و ذهبت الى أن اختزال المرأة على هذا النحو قد أدى الى ابتعادها عن صنع القرار و الشراكة في قيادة مجتمعها أفقياً و شاقولياً. و بالنتيجة أصبح قمع المرأة أمراً عاماً تمارسه مجتمعات بأكملها ودون غضاضة. و هذا ما رفضته الحركة النسوية جملةً و تفصيلاً لا سيما النسوية الليبرالية التي عارضته دون هوادة.
تاريخياً ، سياسياً و قانونياً لم يكن بإستطاعة النسويات أن يتقدمن بحركتهن دون دعمٍ أو بمعزلٍ عن الليبرالية و حكوماتها، فقد ساهمت الليبرالية في دفع حقوق المرأة قدماً على مدى قرنٍ و ونيف ، و مع التطور الفكري و المعرفي لم تنضب الليبرالية في دعمها للنسوية وتنوع أدوارها من رؤياها الحداثية الى تداخل العام والخاص نسوياً و عدم الفصل بينهما الى مطالب تتلخص بدفع الحقوق المدنية، السياسية، الاقتصادية و الاجتماعية للمرأة و مناقشة الحقوق الدستورية و كافة مناحي القوانين . الليبرالية ساندت الثورة الجندرية وهذا ما دفع بحقوق المرأة لاحقاً لان تكون قانوناً دولياً و نعني هنا معاهدة مناهضة العنف ضد المرأة CEDAW.
لم تعُد الحركة النسوية مطالب او تمنيات متفرقة تم تحقيقها هنا او هناك بل اصبحت قانوناً دولياً مُلزماً لدولٍ تحت مظلة الامم المتحدة دعمته الليبرالية و نظمها و فلسفتها القائمة على الديمقراطية و اداتها الرئيسية المساواة و احترام العدل و الحرية ودون هذا الدعم لما استطاعت الحركة النسوية أن تُحقق رؤيتها.