بقلم: نعمة الله رياض
استيقظ المهندس/ نبيه على رنين المنبه في تمام الساعة الخامسة صباحاً، كما تعود كل يوم، ذهب إلى الحمام وحلق ذقنه وتعطر ثم مارس بعض التمرينات الرياضية وتناول طعام الفطور الذي لا تتغير مفرداته كل يوم ، بيضة واحدة مسلوقة ، قطعة صغيرة من الجبن ،أو طبق صغير من الفول المدمس ، ملعقة من المربي أو من العسل الأبيض، كوب من الشاي أو فنجال من القهوة المحلاة بالحليب ، ولا سجائر حيث يوفر بعضا من مصروفاته لشراء شهادات بنكية ذات ارباح شهرية تقيه من غدر الأيام .. توجه لخازنة ملابسه حيث أخرج قميص وبنطال ليكويهما وارتدي ربطة عنق زرقاء يغيرها بواحدة حمراء هما كل ما عنده، وبالرغم من قلة ملابسه إلا انه كان يعتني بها من غسيل وكي ، ليكون مظهره في أحسن صورة ممكنة .. غادر منزله ، كما تعود ، في تمام الساعة السابعة صباحاً وإستقل الحافلة العامة ليكون في مكتبه في تمام الساعة الثامنة ، بعد قليل كانت دوامة العمل قد بدأت تدور ، فيسمع حفيف الأوراق وضغطات أزرار الألات الكاتبة والحاسبة في قاعة فسيحة بها مكاتب التسويق ومكاتب السكرتارية العامة. وكان م. نبيه يشغل وظيفة المدير الفني لتسويق واردات الشركة من الأدوات المكتبية ولعب وملابس الأطفال، ويستلزم عمله إعداد عروض مكتوبة كاملة بالمواصفات الفنية والصور والكتالوجات، لتناسب طلب العملاء.. وطالما كان يحاول إقناع رئيسة في العمل الأستاذ/ عبد الباقي بإعداد وطبع عروض بها مواصفات فنية تلبي طلبات العميل ، إلا أن أ. عبد الباقي كان يصر على تقديم عروض بالبضاعة الحاضرة المتوفرة في المخازن بصرف النظر عن المواصفات الفنية المطلوبة من العميل، وهكذا كانت الشركة تفشل في الفوز بأوامر توريد في كثير من المناقصات أو طلبات الشراء العادية ، وطالما كان م. نبيه يحاول إقناع أ. عبد الباقي بأنه في حالة رغبة العميل في مواصفات فنية غير متوافرة في البضاعة الحاضرة ، فيجب في هذه الحالة مراسلة المورد الأجنبي للحصول على عرض استيراد يناسب المطلوب ، حيث أن الشركة هي الوكيل الرسمي الوحيد للمورد الأجنبي، فيرفض الأستاذ / عبد الباقي ويقول أن سياسة الشركة هى تسويق البضاعة التي تم استيرادها بواسطة الشركة.. إلى أن جاء يوم تسلم فيه نبيه طلب شراء مجموعة كبيرة من ملابس ولعب الأطفال لعميل يشترط تقديم عرض مطابق للمواصفات الفنية المطلوبة كذلك تقديم خطاب ضمان مرفق بالعرض ، وأشر أ. عبد الباقي على الطلب بأن يتولي نبيه سرعة إعداد العرض من البضاعة الحاضرة وإصدار خطاب الضمان ، راجع نبيه كشوف البضاعة الحاضرة في مخازن الشركة فوجد أنه يوجد فقط حوالي عشرة في المائة فقط مطابقة للمواصفات المطلوبة، ذهب نبيه لمكتب عبد الباقي وفي يده طلب الشراء وقال له:- أنا لن اكتب العرض المطلوب ولن أصدر خطاب ضمان .. دهش عبد الباقي مما يقوله نبيه
وقال له:- بتقول ايه يا حضرة ؟ قال نبيه : – أنا رأي … ولم يكمل كلامه حين صاح فيه عبد الباقي :- رأيك !! ، رأيك ده تلفه وتبلعه قبل النوم ، رأيك ده تقوله لبابا ولماما في البيت ، إنما هنا شركة لها قوانين وأوامر ، روح اكتب العرض دلوقتي حالاً واعرف مركزك ، غضب نبيه وقال :- أنا احتج على الإهانات دي ، صاح فيه عبد الباقي وقال :- افعل ما تؤمر به ، انت زي المكنة فاهم يا حضرة ؟ لم يكن نبيه يعتقد أن الأمر ممكن أن يتطور إلى هذا الحد ، لكنه صمم تصميما نهائيا على عدم التراجع ، لأنه إن فعل ذلك فلن يحترم نفسه بعدها..إزاء عدم تقديم عرض ،أرسل عبد الباقي مذكرة عاجلة لمدير عام الشركة يطلب فيها فصل المهندس/ نبيه فورا بسبب ارتكابه جريمة خطيرة تتمثل في عصيان أوامر الرؤساء ، واذا لم تعالج هذه الأمور بحزم ، ممكن أن تسري عدواها إلى بقية الموظفين .. عرضت المذكرة على المدير العام فوجد ان المشكلة غريبة ، وطلب أن يري المهندس الأعجوبة ليسمع وجهه نظره، قال له نبيه أنه إنسان يفكر وليس مكنة صماء ، ضحك المدير العام بصوت عالي وقال له : – مش أنت بس مكنة ، عبد الباقي مكنة ، وأنا مكنة ، افرض رئيسي عضو مجلس الإدارة طلب مني شراء مائة طقم ملابس أطفال أقدر اشتري 99؟ ده كان يرفدني ، سأله نبيه :- ولما المكنة ترفض تشتغل ترفدوها هيه كمان ؟ رد المدير العام لا يا إبني نوديها الورشة تتصلح ، روح اعتذر لعبد الباقي وانا حكتفي بخصم يوم واحد من مرتبك .. فوجئ المدير العام بالمهندس/ نبيه ما زال واقفاً وهو يقول :- بس انا إنسان يا سيادة المدير العام !! صاح المدير العام :- إنسان في عينك قليل الأدب وضغط على زر مكتبه وصاح ارفدوه دلوقتي حالاً .. غادر نبيه الشركة وأصبح في الشارع وظل يسير كالحالم ، كالمصدوم ، بلا وعي وبلا هدف ، وادرك انه برفضه أوامر الرؤساء قد وقع في المحظور وتعدي الخط الأحمر .. لقد رفد اليوم وفقد عمله وعليه أن يستعد لأيام وربما لشهور عجاف حتى يعثر على عمل آخر ،سيكون طعام الإفطار مقتصراً على طبق الفول المدمس ، وإن وجد ! .. نظر حوله ، الشارع يمتلئ بالناس والسيارات والدراجات وهو واقف في عرض الطريق ، وفجأة لم يشعر بنفسه إلا وهو يصيح بعصبية :- أنا مش آلة صماء ، أنا إنسان له مخ بيفكر ، وأخذ يكرر ذلك بنبرات متصاعدة ، وهو يدور حول نفسه في وسط الطريق ،والتفتت المارة إلى مصدر الصوت باستغراب وعلت أصوات الكلاكسات لإخلاء الطريق وقال واحد من المارة :- الناس باين عليها اتجننت !!
مضت بضع دقائق وعادت الحركة في الشارع وكأن شيئاً لم يحدث !!..