بقلم: د. خالد التوزاني
عرف “حوار الحضارات” محطّات تاريخيّة حاسمة، أسهمت في بلورة معانيه ورسوخها في الفكر العالمي المعاصر، ويتعلق الأمر بصدور كتاب روجيه غارودي 1977، وحدث سقوط جدار برلين 1989، وكتاب نهاية التاريخ والإنسان الأخير لفوكوياما 1992، وكتاب صِدام الحضارات لصمويل هنتنتجون 1996، ومبادرة الأمم المتّحدة لحوار الحضارات 2001، وأحداث 11 سبتمبر 2001، ومبادرة تحالف الحضارات 2005، ثم ثورات الربيع العربي 2011، وموجة اللّجوء نحو أوروبا، ثم جائحة كورونا كوفيد 19، وما تبعها من تحولات اقتصادية وسياسية بارزة.
وفي خضم هذه التحولات الدولية، برزت مكانة المغرب باعتباره بلداً رائداً في حوار الحضارات، فقد احتضنت مدينة فاس المنتدى العالمي التاسع لتحالف الحضارات، الذي أقامته منظمة الأمم المتحدة يوم 23 نوفمبر 2022، وتم فيه التأكيد على قيم الحوار والتسامح، وأهمية جهود المغرب في حوار الحضارات وبناء قيم التسامح، حيث قال الممثل السامي لتحالف الحضارات السيد ميغيل أنخيل موراتينو: “في سياق جيوسياسي معقد للغاية، تحدثنا هنا في فاس عن السلام والتفاهم والاحترام المتبادل والالتزام بالعيش معاً. هذا شيء يحتاجه الناس ويرحبون به. إنهم متعطشون للسلام. وأعتقد أن هذا ما علينا تذكر”، وأضاف متحدثاً عن ريادة المغرب في هذ المجال: “النموذج المغربي حقق نتائج ملموسة من حيث الحاجات الملحة للاحترام المتبادل والأخوة والسلام والتفاهم”، ولا شك أن هذه النتائج إنما هي ثمرة جهود المغاربة أفراداً ومؤسسات، وعلى رأسها مؤسسة إمارة المؤمنين، فقد اختار المغرب موقف الحياد في كثير من القضايا الدولية المستعصية، وخاصة النزاعات الإقليمية، والمتمثلة أحياناً في حروب إعلامية أو سياسية بين عدد من القوى العربية والإسلامية والأوروبية والإفريقية، ما يجعل الحضور المغربي يتأثر بالصراعات الإقليمية وهذا التنافس، خاصة وأن المغرب في مواقفه فقد اختار الحياد الموضوعي والوقوف بعيداً عن أي تحيز نحو جهة على حساب جهة أخرى، إضافة إلى التأكيد على الخيارات السلمية في تدبير الأزمات والنزاعات، وحرصه على تعزيز مبادرات الوحدة والتعاون وحسن الجوار، وقد مكّنت هذه الاختيارات المغربية الاستراتيجية من تعزيز مكانة المغرب التاريخية وبناء جسور المستقبل مع كل القارات وكل دول العالم دون أي تمييز.
يقتضي فهم مركزية الحوار الحضاري في المغرب من خلال استحضار مؤهلاته، وكيف تحول إلى جسر بين إفريقيا والعالم العربي وأوروبا في وقت واحد، ومع تزايد الطلب على الحوار والتعايش في العالم، يتصاعد الدور الكبير الذي يقوم به المغرب في إشاعة هذه القيم.
لم يكن المغرب مجرد نقطة جغرافية تلتقي عندها القارات، بل هو فضاء حيوي للتلاقح الثقافي والحضاري، وذلك بفضل تداخل التاريخ العريق لكون المغرب كان منذ عدة قرون مضت مركزاً لتوافد حضارات متعددة مثل الفينيقيين والرومان، ثم الفتوحات الإسلامية وهجرات الأندلسيين والأفارقة، ليتحول إلى نقطة التقاء الثقافات المتعددة، حيث عاش على أرضه الأمازيغ والعرب والأفارقة وأهل الأندلس وبعض الدول الأوروبية، وهذا التعدد الثقافي تمظهر في غنى التراث المغربي المرتبط بالعادات والتقاليد واللباس والطبخ والمناسبات وأشكال المعمار والزخرفة.. وغيرها من مظاهر التنوع الثقافي والغنى الحضاري.
لقد اقتضى هذا التنوع الهائل في الثقافات داخل المغرب بناء هوية مغربية تقوم على التعايش والتماسك الاجتماعي والتكامل الاقتصادي، وتجسدت الوحدة في مؤسسة إمارة المؤمنين، وفي اختيار ثوابت دينية أصيلة وهي المذهب المالكي الذي يقبل الأعراف ويتميز بالمرونة وحماية الاختلاف ثم العقيدة الأشعرية التي تركز على العمل والإنتاج، ثم التصوف السني الذي يقوم على التزكية وإصلاح السلوك وإتقان الأعمال والتجمل بفضائل الصفات، وبالإضافة إلى هذه الثوابت اختار المغاربة قيم الوسطية والاعتدال والتضامن والتواصل والانفتاح، وهو ما جعل من التنوع الثقافي مصدراً للقوة المغربية ومدخلا للاستقرار.
ويبرز اليوم هذا التنوع في عدد من المؤسسات المغربية مثل مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة، ورعاية المغرب للجالية المغربية المقيمة بالخارج، وعقد شراكات تاريخية مع أوروبا، وعضوية الاتحاد الافريقي، وإنشاء متاحف متعددة منها متاحف التراث اليهودي وحماية الذاكرة المشتركة، وإنشاء المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، وأيضاً الاستثمار في التنمية البشرية والارتقاء بمستوى عيش المواطن المغربي.. وغير ذلك من التوجهات الثقافية بالأساس والتي تعكس طموحاً نحو تعزيز التماسك الاجتماعي والقضاء على مختلف أشكال العنصرية والتمييز أو الكراهية والقبلية.
لقد كان موقع المغرب كان أحد العوامل الجيو استراتيجية التي ساعدت في ترسيخ الحوار بين الثقافات التي عاشت فوق أرض المغرب، لكن لم يكن الموقع الجغرافي وحده هو العامل الحاسم، وإنما هناك تضافر جملة من العوامل التي جعلت من المغرب بلداً رائداً في حوار الحضارات، وعلى رأس تلك العوامل الإرث التاريخي الكبير للمغرب والمغاربة، إذ لم يكن المغرب في بعض عصوره التاريخية بلدا صغيراً في أقصى شمال إفريقياً، ولكنه كان إمبراطوريا واسعة الامتداد وخاصة في العصر الموحدي عندما شمل الأندلس ومجموع شمال إفريقيا وجنوب الصحراء، ما عزز مكانته الثقافية والحضارية، من خلال الحواضر العلمية الكبرى مثل فاس التي استقطبت العلماء والعابد والصلحاء من كل الأديان، وقد جاء اختيار الثوابت الدينية للمملكة المغربية استجابة للرغبة في توحيد الأمة وتجميع طاقاتها وتحويل التعدد إلى تكامل وتضامن.
لا يمكن إغفال أهمية الموقع الجغرافي للمغرب الذي يقع في نقطة التقاء الثقافات وجسراً للعبور بين الشرق والغرب، وبين إفريقيا وأوروبا، كما شكل أيضاً نقطة استقرار مثالية للثقافات الوافدة عليه عبر التاريخ، نظراً لعوامل بيئية مساعدة؛ فالجغرافيا الطبيعية تتميز بتنوع التضاريس حيث نجد الجبال والهضاب والسهول والصحراء، وأيضاً تنوع الغطاء النباتي بين الغابات والواحات والمراعي والأراضي الخصبة، إلى جانب كثرة العيون والأنهار وامتداد السواحل المغربية على بحرين؛ البحر الأبيض المتوسط، والمحيط الأطلسي، وكذلك اعتدال مناخه وكونه يتميز بالفصول الأربعة، ولذلك فإن هذا التنوع قد جعل كل الحضارات الوافدة تشعر بأنها في بلدها، فتعيش في سلام وأمن.
ما أبرز التحديات في ظل تصاعد خطاب الكراهية عالميًا؟
خطاب الكراهية لم يعهده المغرب، فهو خطاب دخيل ووافد، ولم يجد في المغرب تربة خصبة للتصاعد، ولذلك بقي المغرب في منأى عن هذا الخطاب العالمي، والحالات التي يتم ملاحظتها من حين لآخر، تعد نادرة ومحدودة واستثنائية وسرعان ما يتم إخمادها في مكانها، فلا تنتشر، وقد انتبهت العديد من الدول إلى مكانة المغرب الاستراتيجية في تحقيق الأمن والتعايش فحاولت الاستفادة من إرثه الثقافي ومنهجه في تدبير الاختلاف وبناء مجتمع متماسك ومتضامن ومتسامح، والمغرب لم يبخل على العالم بهذه التجربة الفريدة، ولذلك فهو يقدم يد المساعدة لكل دول العالم في تعزيز التسامح والتعايش ونبذ التطرف والكراهية.
غير أن خيار الحرية والديموقراطية والانفتاح الذي اختاره المغرب يجعله أمام بعض التحديات، ومنها موقعه الجغرافي الذي يقع اليوم في جوار غير مستقر، وخاصة ما يقع في دول الساحل وجنوب الصحراء من تنامي تيارات متطرفة تعكس هشاشة إقليمية إلى جانب الهجرة غير النظامية التي تضع المغرب بين مطرقة الضوابط الأوروبية وسندان البعد الإنساني الذي يتعامل به مع المهاجرين الأفارقة.
كذلك هناك تحدي تساعد الإسلاموفوبيا في الغرب والصراعات العربية قد تُختزل في نظرة أحادية للمغرب كـ”دولة مسلمة” فقط دون مراعاة التنوع الثقافي والحضاري الذي يزخر به المغرب، فهو ليس مجرد دولة إسلامية، ولكنه أيضاً مقر استقرار العديد من الديانات والثقافات، والتي تعتز بانتمائها للمغرب باعتباره موطناً لها أيضاً، خاصة وأنها تسهم في التنمية الاجتماعية والاقتصادية والروحية وتعمل على تعزيز التماسك الاجتماعي والاستقرار السياسي، وتعلن تشبثها بالثوابت الدينية والوطنية للمغرب واعتزازها بالمؤسسات المغربية وخاصة مؤسسة إمارة المؤمنين التي تشكل ملاذ الأمة المغربية الممتدة داخل المغرب وخارجه.
ويُضاف إلى هذا التحدي، وجود تنافس جيو سياسي أو حرب باردة بين عدد من القوى العربية والإسلامية والأوروبية والإفريقية، ما يجعل الحضور المغربي يتأثر بالصراعات الإقليمية وهذا التنافس، خاصة وأن المغرب في مواقفه قد اختار الحياد الموضوعي والوقوف موقف الحكيم في عدم التحيز لجهة على حساب جهة أخرى، والتأكيد على الخيارات السلمية في تدبير الأزمات، والسعي نحو تعزيز مبادرات الوحدة والتعاون وحسن الجوار، وهذه دبلوماسية مغربية راسخة تعزز مكانته التاريخية وتبني جسور المستقبل مع كل القارات ودول العالم.
إن المغرب بفضل دبلوماسية ملكية حكيمة، يقودها أمير المؤمنين جلالة الملك محمد السادس نصره الله وأيده، تراعي الاختلاف وتسعى إلى حماية التعايش وترسيخ التسامح، يمكن أن يؤدي وظيفة استراتيجية على مستوى تعزيز التعايش اليوم، من خلال استثمار مؤهلاته الثقافية وخاصة التعددية والوسطية ضمن وحدة مغربية متماسكة، أن يقدم للعالم رسالة إنسانية سامية، وبديلاً حضارياً راقياً مؤهلاً للتأثير في الواقع واحتواء الأزمات والقضاء على الصراع، ونبذ التطرف والكراهية، وهو ما انخرط فيه المغرب مؤخراً من خلال إطلاق عدد من المبادرات مثل التعاون جنوب جنوب، ومثل مبادرة مدن التسامح، واحتضان التظاهرات العالمية الفنية والثقافية والرياضية، الشيء الذي يؤكد ريادته في السلام وتعزيز الأمن العالمي.