بقلم: د. خالد التوزاني
على الرغم من انتماء الشاعر المغربي الدكتور أحمد مفدي لجيل ثقافي متأثر بالتيارات الفكرية الغربية ومقلد لها، حيث يعتبر أحد شعراء الطليعة في المغرب ينتمي إلى موجة السبعينات من القرن الماضي، إلا أنه لم يكن ليركن لما عند الآخر الغربي وإنما حافظ على استقلالية رؤيته ومنهجه، ملتزما بالخصوصية الثقافية للمغرب، ومعبّرا بهذا التوجّه الإبداعي عن حساسية جديدة تعيد الاعتبار للثقافة الوطنية، والتي يعتبر التصوف أحمد مكوناتها، ولذلك سنحاول تتبع تجليات الحضور الصوفي في بعض قصائد هذا الشاعر ورصد دلالاته.
عندما يتحول العشق الصوفي للوطن إل قداسة، فإن القصيدة تُنسج بعناية فائقة الجمال، وهكذا نرى الشاعر أحمد مفدي في ديوانه “صهيل العشق”، يحلّق بالقارئ في عوالم اللغة الصوفية الراقية، وخاصة في قصيدة وسمها بــ “اخلع نعليك بوادي الشعر”، حيث القول المقدس في مقامات القرب، جاء فيها قوله (ص: 118):
قولي للراقد ملفوفا بالصمت
اخلع نعليك فأنت بوادٍ قُدِّسَ فيه القول طوى
أو قاب القوسين من الإحراق
واغسل بالنور القدمين وناولني
شربة ماء
وانظر ما يعلق بالساق
وبغض النظر عن التفاعل النصي الواضح في هذا المقطع من قصيدة “اخلع نعليك بوادي الشعر”، وخاصة ما يتعلق بتوظيفه لأحد عناوين كتب الصوفية، وهو كتاب: “خلع النعلين واقتباس النور من موضع القدمين” لابن قسي الأندلسي، وكذلك النهل من معين القرآن الكريم، نلحظ جمال اللغة المثير للانتباه، والذي يعود إلى جمالية الحقل الذي تنتمي إليه الألفاظ الموظفة، ويتعلق الأمر بحقل التصوف الذي أضفى على لغة الوصف طابعا روحانيا فريدا، حيث تتجاوز لغة الوصف الإدراكين الحسي والعقلي، إلى إدراك الحلم الروحي الذوقي القائم على ملكة الخيال والباعث للانفعال المولد للذة الشعور بنشوة الجمال والجلال الصوفيين.
بلغة شعرية تمتح من معين التراث الصوفي جمالياتها، يسافر بنا الشاعر المغربي الدكتور أحمد مفدي في عوالم بعض المدن المغربية وخاصة فاس باعتبارها العاصمة الروحية للمغرب وبوابة التصوف نحو العالم انطلاقا مما تحفل به من زوايا وأضرحة مشهورة، حيث تربطه بهذه المدينة علاقات وجدانية خاصة، تجعله ينظر إليها نظرة تقديس وعشق لا ينتهي، ولذلك خصَّ هذه المدينة الفاتنة بأكثر من قصيدة، لتظل أميرة قلبه ومهوى فؤاده، فلا يطيق البعد عنها، ذلك عشق الشاعر أحمد مفدي لعاصمة التصوف التي سَكَنَتْ جسده وروحه، وعَزَّ عليه أن لا يجد متسعا في قلبه لغيرها، فنادى معشوقته فاسا أن تفسح في الجسم ما يسع عشاقا ورؤى، حيث قال (ص: 130، ديوان: سيدة الإشراق):
يا ساكنتي…!
خلِّي بعضَ فرائصِ جسمي
يسكُنُها العُشَّاقُ، وبعضي
تسْرَحُ فيه رؤَايْ…!
أمشاجي وكُنَاتُ العِشق و”فاسُ” هوايْ…!
ليظل العشق الصوفي لهذه المدينة الخالدة هو أبرز ما يفجّر اللغة الشعرية للدكتور أحمد مفدي، فكان تصويره لمعالم فاس العمرانية والتاريخية والثقافية تصويرا بديعا آسرا، لم تسعه إلا لغة صوفية عكست صوفية هذه المدينة، وهو تصوير ينمّ عن قوة لغته الشعرية التي تنهل من التصوف ما يقوّي به نصوصه الإبداعية، ولذلك فإن الباحث في تجليات الحضور الصوفي في شعر الدكتور أحمد مفدي يجد نصوصا شعرية غزيرة تُسعفه للغوص في أعماق هذا الحضور الدال على تأثر واضح بالتراث الصوفي وتوظيفه للتعبير عن موضوعات مرتبطة بعشق الوطن والتشبث بالهوية المحلية والدفاع عنها، وهي القيم التي تتقدم بها الشعوب وينبغي ترسيخها في الناشئة ولفت انتباه الفئة المثقفة لوجوب الاعتناء بها وإيلائها العناية اللازمة.
صوفية باب المكينة:
يؤرخ الشاعر الدكتور أحمد مفدي لبعض الأحداث الصوفية التي عرفتها مدينة فاس خلال العصر الحاضر، والتي أسهمت في استرجاع مكانتها التاريخية وعودة إشعاعها العالمي، ويتعلق الأمر بمهرجان الموسيقى الروحية العريقة، ومهرجان فاس للثقافة الصوفية، يقامان بأشهر أبواب فاس، وهو باب المكينة، حيث تصدح أنغام الموسيقى العريقة في ليالي فاس البهية، يقول شاعرنا (ص: 91، ديوان سيدة الإشراق):
أرهف سمعك للأوتار، وأعدلْ سَكرة مَنْ مَرّوا
فالظّرفُ بهاءْ … !
يستبقُ النّشوةَ في (مكينتنا)
يحكي وهج البدر ويختصرُ…!
في راحَتِكَ المِنْسأَةُ…
ويصف شاعرنا ببهاء جماليات ليالي “باب المكينة” الصوفية، حيث تلتقي الحضارات الإنسانية من خلال الوفود المشاركة في المهرجان، ويسافر الجَمْعُ عبر التاريخ والثقافات، يقول شاعرنا (ص: 92):
فالنّغَمُ المسكونُ يسافرُ في أنداءِ الشَّادي
ظَعَنٌ هوَ أم سفرٌ..!؟
سافرْ…
فتخوم المسرى بِرُبى (فاسٍ)
وهجٌ يثرى
وبقايا النُّور رواءٌ ينهمرُ …!
مطراً…
إخصابَ حضاراتْ…
حيث يحضر الطابع الروحي مستترا في الجانب الصوفي الذي يمثل بقايا البهاء في مدينة فاس، ولذلك يتجلى النَّفَسُ الصوفي بقوة في ثنايا قصيدة “فاس بقايا البهاء”، ويتجلى أكثر في المقاطع الشعرية التي تصف مهرجان فاس للثقافة الصوفية، حيث يقول (ص:94):
حاذِرْ أن تُشغلك (الحضرة) في المسقى
فدراويشُ الليل خفافيشُ الأحراشِ إذا
انهدمَ الملقى..!
سكنوا…!
اشرب من ساقية الخمر رحيقا
في كأسٍ فاسيةِ الأنماطْ…!
لتؤسس لغة الشاعر الدكتور أحمد مفدي صوفيتها، فتنهل من المعجم الصوفي ما يبلّغها مقامات إبداع خلاق، ينقل المعنى من المألوف إلى بديع البيان وجميل الوصف البديع الذي يخرج باللفظ عن دلالاته المعتادة، حيث قوة التعبير التي تؤكد امتلاك ناصية اللغة وملكة الشعر في عنفوانها الألق، فتتدلى من دالية القصيدة عناقيد المعنى الجديد الذي يمتح من الثقافة الصوفية سر جماله، ومن تلك الألفاظ نستحضر: الحضرة، والدراويش، والشرب، والخمر، والكأس..، وكذلك: الوجد، والجذب، والخرقة..، وهي ألفاظ لها عمقها الدلالي في الحقل الصوفي، استدعاها شاعرنا لغاية أكيدة تمثّلت في وصف ليالي فاس الصوفية بباب “المكينة”، ولا يمكن وصف أجواء الصوفية بغير ألفاظ القوم، وذلك ما خدم انسياب المعاني وعذوبة الألفاظ بشكل منسجم مع موضوع القصيدة، فلا يشعر القارئ بأي عناء وهو يسافر في لغة النص الجميلة حيث يشرب من رحيق الشعر ما يجعله يقرأ ويترنم ويستمتع ويعيد القراءة والتأمل، ولعل هذه خاصية جمالية في أعمال الشعراء المغاربة الكبار الذين اختمرت تجاربهم الإبداعية ونضجت معارفهم وأثمرت سليقتهم الشعرية دررا نفيسة من جوامع الكلم، حيث الكلام الموجز والإيحاء المكثف والدلالات الواسعة التي قد يحتاج تفصيلها لصفحات وارفة الظلال.