بقلم: تيماء الجيوش
مرة أخرى في ذكرى رجاء الناصر و محمد عرب و كل ضحايا التعذيب.
في المقال السابق تناولت التعذيب وأنه محظور في القانون العرفي الدولي ، سأعود إليه في هذا المقال على أن حظره في سوريا بات واجباً قانونياً و أخلاقياً. و سأبدأ بأن حفظ الكرامة والحياة هي من الحقوق الطبيعية التي يتمتع بها الإنسان. و هذا ما نهج التشريع الدولي في النّص عليه بكل ما يحتويه من قوانين و معاهدات دولية ، و لعل أولها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان حين ذكر في مادته الثالثة: «لكلِّ فرد الحقُّ في الحياة والحرِّية وفي الأمان على شخصه.»
شهدنا خلال عقدين ماضيين متغيرات أمنية و سياسية و عسكرية في منطقتنا العربية و كذلك في مناطق أخرى من العالم دفعت العديد إلى مغادرة أوطانهم للبحث عن سماءٍ آمنة لهم و لأطفالهم . كان لأهل سوريا نصيباً ليس هيناً من رحلة البحث هذه ، سواء كان لجوءاً أم نزوحاً داخلياً. على الضفة المقابلة هناك من لم يستطع ، و هناك من قرر البقاء و الدفاع عن معتقداته و مطالبته بالكرامة و الحرية و الحياة ، و كان الثمن باهظاً ، تبَدّى في الاعتقال، المحاكم الميدانية، التغييب القسري، التعذيب حتى الموت، حدث هذا بشكلٍ ينافي كل القيم الإنسانية .
اليوم المرحلة في سوريا تختلف عما سبقها، العديد منا يتابع ما يجري هناك من تنصيب رئيس جديد، مؤتمر وطني يُعقد في دمشق هذه الأيام، لقاءاتٍ و مشاورات دولية وإقليمية، الحديث عن صياغة دستور جديد، ربما حكومة انتقالية مع بداية الشهر القادم …إلخ. أضعف الأيمان كان لدى العديد من أصحاب الرأي وهو من الأهمية بمكان إصدار قانونٍ يُجّرم التعذيب و يعّدهُ جريمة تستوجب تحقيقاً، إدانة و عقاباً. و هذا بحد ذاته هو واجب قانوني و أخلاقي. التعذيب حرّمه القانون الدولي و أكدّ عدم قانونيته و حظره حظراً تاماً سواء في العهد الدولي بالحقوق المدنية و السياسية ICCPR أم في اتفاقية مناهضة التعذيب CAT.
في الحالة السورية سابقاً ورد منع التعذيب في قانون العقوبات السوري و في قانون العقوبات العسكري كما ورد في الدستور ، ثم صدر قانون تجريم التعذيب رقم ١٦ للعام ٢٠٢٢ و تضمن ثمانية مواد، ربما كان صدور هذا القانون تحديداً مناورة من نظامٍ متهالك حينها بعد قانون قيصر ، لكن المفارقة المؤلمة إن الآلاف فقدوا حياتهم نتيجة لتعذيب النظام ، ناهيك عن ان التعذيب تمّ استخدامه كإستراتيجية ثابتة لدى النظام لبث عقدة الخوف في المجتمع بأكمله. المفارقة المؤلمة الثانية انه ومنذ العام ١٩٦٩ صدر المرسوم رقم ١٤ و المرسوم ٥٤٩ و كلاهما تحديداً يقومان بحماية الأجهزة الأمنية من أمن دولة و أمن سياسي من الملاحقة القضائية و القانونية و هذا يشمل كل العاملين لدى الأجهزة من منتسبين، منتدبين و متعاقدين وأضيف لهم لاحقاً أفراد الشرطة و العاملين لدى الجمارك، و هذا يعني ان يصدر القانون من الناحية النظرية بمواد تعاقب الجاني على جريمته ، وان يكون فارغ المحتوى عند تطبيقه عملياً مادام المرسوم فاعلاً و يقوم بحماية مرتكبي الجرم على تنوع وظائفهم و درجة أفعالهم في التعذيب. اجتهدت الأجهزة الأمنية في سوريا باستخدام وسائل تعذيب جسدية من ضربٍ إلى صدمات كهربائية ، إلى تعذيب جنسي كالاغتصاب الذي فاقت حدّته مقدرة الفرد ان يستوعب درجته الوحشية اللانسانية ، الى التعذيب النفسي و القائمة تطول لدى نظامٍ بقي لما يزيد عن نصف قرن يمتهن في تشبثه المرعب في السلطة انتهاك حقوق الأفراد بشكلٍ ممنهج و نشر ثقافة الرعب والخوف. حلّ التعذيب و الاعتقال محل احترام القانون و دوره. وقع التعذيب على الأطفال و الطلاب و النساء و الرجال، الناشطين ، المتظاهرين و امتد لينال حتى من كان لا ينتمي لهذا وذاك ، كانت سردية النظام تستند الى رواية واهية يسردها و يكررها عبر وسائل إعلامه بأنه في معركة ضد الإرهاب ، بل انشأ محكمة للإرهاب بهذا الصدد .
اليوم طبيعة المرحلة و ما يقتضيه احترام تضحيات من رحل تعذيباً تفرض أن يصدر قانوناً حديثاً وطنياً يعتبر التعذيب جريمة في سوريا . تُشّكل لجان لهذا الغرض ، يُكّرَس التزام سوريا الدولي باحترام العهود والمواثيق الدولية التي نأى نظام الأسد عن تطبيقها، بل لم يكن لديه احتراماً للقانون الدولي كي يمتثل له . قانوناً يختلف في الكم والنوع عمّا سبق ، يعتبر ان القانون الدولي مصدراً اساسياً للتشريع، يُعّرف جريمة التعذيب لا سيما من توفر الإرادة للقيام بجرم التعذيب و الغاية المبتغاة من ارتكابها، يشرح جرائم التعذيب، أركانها، وسائلها، مرتكبيها من المتدخلين ، الفاعلين، و كل من ساهم بها و من ثم شرح العقوبات وفقاً لدرجة الجرم والانخراط به.
هذا كله يوضح الرسالة من تجريم التعذيب التي تبدأ من أن هناك دوراً أصيلاً للقانون في المجتمع و الدولة ، وان حقوق الأفراد تتم حمايتها عبر إجراءات و آليات ينص عليها القانون وان هناك محاسبة لمن ينتهك هذه الحقوق و لمن يقترف جرم التعذيب ، و من ثم تقديمه للمحاكمة ، ان يكون هذا القانون عنواناً لسوريا الحديثة من خلال منع التعذيب و الاهانة و المعاملة المسيئة سواء في الحبس او التوقيف ، أثناء التحقيق او الإحالة للمحاكمة ، التأكيد على تفتيش مراكز الحبس و الاعتقال ، مراقبة الاستجواب ، التأكيد على الحق في التمثيل القانوني ….الخ. التعذيب في سوريا أوجد ثقافة الخوف ، جعل من القانون فارغاً من السيادة و العدالة القضائية لا معنى لها ، لم تعد هناك ثقة في المؤسسات القضائية من قبل العديد من الأفراد . امتدّت مساحة التعذيب و أثارها على الأفراد منهم من تم إعدامه جماعياً و دون محاكمة ، منهم من فارق الحياة جوعاً و تعذيباً ، و منهم من نجا من هذه المحرقة البشرية لكن لتصاحبه مدى الحياة أمراضاً و عجزاً جسدياً . امتدّ هذا الألم ليشمل وطناً بأكمله و الذي يحق له و لأهله اليوم و كل اليوم الحق في الحياة و الكرامة ، بمثل ما نصّت عليه العهود والمواثيق الدولية و هذا ليس ترفاً بل واجباً اخلاقياً و قانونياً تمليه على المجتمع والدولة بان معاً. الرحمة للشهداء ممن عُذِبوا و قُتلوا بأيدي سجانيهم . لكم المجد و الحرية الأبدية . لك المجد رجاء الناصر و محمد عرب.
أسبوع سعيد لكم جميعاً.